من قاع الخابية: "مِلِّي تَحْفَر حَفَر بِالْقِيَاس مَتْعَرَّفْهَا لِيك وَلَا لِلنَّاس"

من قاع الخابية: "مِلِّي تَحْفَر حَفَر بِالْقِيَاس مَتْعَرَّفْهَا لِيك وَلَا لِلنَّاس"
قصة قصيرة / الأحد 30 مارس 2025 - 00:21 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب:فهد الباهي/م.إيطاليا

في قلب الصحراء الشاسعة، حيث لا شيء سوى الرمال والرياح، قامت قبيلة تعيش على التجارة والصيد، تحكمها قوانين صارمة لا تتغير، بين هؤلاء كان "حمدان"، رجل في منتصف العمر، عرف بهدوئه الظاهر وطموحه الدفين "نِيتُو عَلَى قَدُّو".

لم يكن قد غادر ديار العشيرة قط، لكن القدر ساقه في رحلة مع أبناء عمه في قافلة تجارية، وهناك، رأى للمرة الأولى عالمًا أكبر مما عرفته عيناه.

منذ اللحظة الأولى، افتتن حمدان بعالم التجارة، بالسوق الصاخب وروائح الجلود والتوابل، بأصوات الباعة التي تتداخل مع وقع الأقدام المتسارعة، لكنه لم يكن مجرد مراقب، بل أظهر حماسة غير معهودة، حمل الأحمال قبل أن يُطلب منه، وسعى لإثبات نفسه بأي وسيلة، لم يكن ذلك بدافع الإخلاص فقط، بل لأنه أراد مكانًا دائمًا بين القوافل، حيث المال والنفوذ.

مع مرور الأيام، أدرك أن زعيم القافلة لم يكن أقواهم جسدًا ولا أكثرهم صخبًا، بل كان "رحال"، ابن عمه، الرجل الذي لا يحمل مالا في جيبه لكنه يعود كل مرة بربح وفير، "عِندُو الكَلِمَة وَالمَعْقُول" كان السوق يفتح له ذراعيه، والتجار يتسابقون للشراء منه والباعية أيضًا يحبون البيع لـ "رحال"، بل ويأكل الجميع من خيره عند عودته، أثار هذا غيرة حمدان، التي بدأت كنقطة صغيرة في قلبه، لكنها سرعان ما تضخمت حتى غمرت روحه بالكامل.

بدأت الأفكار السوداء تنسج خيوطها في عقله، "غَرَّا الشَّيْطَان".

لماذا يكون رحال هو السيد في السوق؟

لماذا ينظر إليه الجميع بإجلال بينما يراه هو مجرد تاجر محظوظ؟

الشيطان وسوس له أن الفرصة سانحة، وأن عليه أن يتحرك الآن قبل أن يفوته الركب، وهكذا، بدأ "حمدان" يزرع الشك في قلوب التجار، يهمس في آذانهم عن بضائع أفضل وأرخص، ويوحي لهم أنه قادر على تجاوز "رحال" بسهولة.

لم يكن هذا كافيًا، فخطط لأمر أعظم، استغل ثقة أبناء عمه وإتفق مع لصوص مخادعين في السوق أن يجلب لهم الجلود بأرخص الأثمان، وبعد بيعها يتقاسم معهم الربح، وسرق كميات كبيرة من الجلود لأبن عمه، وقرر أن يبيعها وحده للتجار اللصوص، بعيدًا عن أعين القبيلة، كانت خطته محكمة، أو هكذا ظن، لكنه لم يكن يعلم أن القدر يُعد له فخًا أشد دهاءً من كل ما فكر فيه.

عندما وصل "حمدان" إلى السوق، استقبله التجار اللصوص الذين كان يظنهم أصدقاءه بترحاب حار، أخذوا منه البضاعة بيدين مرتعشتين، وأشادوا بجودتها وكأنهم قد وقعوا على كنز ثمين، كان "حمدان" مطمئنًا، لم يخطر بباله أي شيء مريب، لكن ما لم يكن يعرفه هو أن نظراتهم كانت تخفي وراءها نوايا مبيتة، وتخطيطًا محكمًا ليوقعوه في فخهم.

عندما حان وقت الدفع، طلبوا منه الانتظار لبعض الوقت حتى يأتوا بالمال من صديق لهم، تركوه في السوق بمفرده، يتأمل البضائع، ويعتقد أن الصفقة قد تمت بنجاح.

ولكن، في غفلة منه، ذهب اللصوص بالجلود، تاركين إياه ينتظر بصبر في مكانه، ظل حمدان ينتظر، إلى أن جاءه أحدهم مبتسمًا وقال بصوت بارد: "مِلِّي تَحْفَر حَفَر بِالْقِيَاس مَتْعَرَّفْهَا لِيك وَلَا لِلنَّاس"، نحن لا ندفع إلا لمن نثق به، وأنت... مجرد ظل لرَحال"، عند تلك اللحظة، أدرك "حمدان" أنه قد وقع في المصيدة، وأنه كان ضحية خيانة محكمة.

حاول حمدان التوسل إليهم، أن يشرح، أن يطلب العذر، لكنه كان يواجه آذانًا صماء وقلوبًا قاسية، قرر التجار استغلال ضعفه وطمعه، فاستحوذوا على البضاعة ورموه خارج السوق كما يُرمى المتسول، بدون رحمة.

كان وحيدًا، لا يملك مالًا، ولا أي دعم، وعاد إلى السوق خالي الوفاض، شعور بالخذلان تسلل إلى قلبه، وكان يعلم أن مكانه بين هؤلاء قد انتهى.

عندما عاد إلى القبيلة، لم يجد سوى وجوه غاضبة، وعيونًا تراقبه بنظرات باردة وقاتلة، همس أحدهم: "طَعَام كَائِن وَالغَدْر كَائِن"، كانت العبارة كالسيف الذي قطع ما تبقى من كرامته، وأصبح يشعر أن القبيلة بأسرها قد تخلت عنه.

وقف "رحال" أمامه في تلك اللحظة، لم يقل شيئًا في البداية، بل اكتفى بنظرة واحدة كانت كافية لتحمل كل شيء: الأسى، الخيبة، وحتى الرحمة التي لم يفهمها "حمدان" في تلك اللحظة، ثم قال بهدوء، وكأن كلمات باردة قد خرجت لتأخذ شكل الحكمة: "من يغدر بمن وثق به، يحفر قبره بيديه".

لم يكن في صوته غضب، ولا لوم، بل مجرد حقيقة صارخة. لم يثر رحال، ولم يوبخه، بل تركه يواجه مصيره وحيدًا، مع ألم داخلي يعصر قلبه.

تلك اللحظة كانت بداية لعذاب طويل. بدأ حمدان يشعر بأن العذاب ليس في فقدان المال أو البضاعة فقط، بل في الندم، في الخيانة التي ارتكبها، وفي نفور الجميع منه بسبب خطيئته. كانت ألمه تمزقه من الداخل، فهو الآن يعلم أنه فقد كل شيء، حتى نفسه.

في تلك الليلة، جلس "حمدان" تحت سماء الصحراء الباردة، يشعر بالوحدة للمرة الأولى، يسمع صدى خيانته يتردد في رأسه كعاصفة لا تهدأ.

أدرك أخيرًا أن الطمع كان معبده، والخيانة كانت قرابين قدمها، لكنه لم يحصد سوى اللعنة، وهكذا، كما كان يحفر الحفرة "لرحال"، وجد نفسه في قاعها، دون مخرج، دون مال ولا أمل، دون حتى ظل يرافقه في وحدته القاتلة التي عاشها إلى موته.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك