أنتلجنسيا المغرب: فهد الباهي/م.إيطاليا
تخرج من البراكة التي تعيش فيها وتحملق
بعينيك المرمصتين، وفي يدك حذاؤك الرياضي المصنوع من أجود أنواع البلاستيك، أسود
اللون "باطا خنيزو"، ممزق بعض الشيء من كثرة التسديدات والضربات التي
توجهها للكرة، وربما تخيطه بقطع خيط "الشمرتل" إذا كانت "التقطيعة
كبيرة".
تمشي حافي القدمين حفاظًا على حذائك
الرياضي الذي لا تلبسه إلا عند لعب المباراة، ثم تنزعه بحرص شديد، وفي يدك الأخرى
كسرة خبز مطلية بقطرات زيت "كريسطال" أو محشوة بقليل من مسحوق السكر
"سنيدة" أو هما معًا، "كانت أكلة ديباناج بنينة"، ساعتها كانت
"بنينة".
وربما تستيقظ قبل الآخرين وتأخذ حبة
طماطم، ترشها بقليل من الملح مع كسرة الخبز وتشرب ماءً من البئر، فتكون بذلك قد
حصلت على فطور صحي طبيعي، رائع المذاق. صراحة، لم يكن جيلنا يتذوق، وإنما كان يأكل
ليقاوم ويعيش، مقابل تذوق الطعام، كان يتذوق حلاوة الحياة.
تجلس على الرصيف بقارعة الطريق، أصلاً
لم يكن هناك رصيف، "جنب الشانطي محفر"، على الأرض، متكئًا على سند من
"القصدير"، لا تفترش شيئًا، تطوي رجليك وتنتظر من يخرج ليؤنس وحدتك
ويخرجك من عالم العزلة التي تعيشها تلك اللحظات، وأنت تخطط وتعقد وتحل كيف ستقضي باقي
يومك أو تفكر في صناعة لعبة دراجة من بقايا "فلتر زيت الميكانيك" أو من
"جانطا" دراجة هوائية. شراؤها مستحيل، فأنت لا تملك فلسًا واحدًا.
وقد تكون لديك "جوج فرنك"
بقيت لك بعدما نجحت في مراوغة "مول الفران الشعبي" ووفرتها لنفسك، كانت
سرقة مشروعة نبررها بأن صاحب الفران مخادع ولا يطهو الخبز جيدًا ليوفر الكثير من
الحطب.. سامحنا الله جميعًا.
تشتد حرارة الشمس بعض الشيء، ويبدأ
البقية في الخروج من جحورهم، نتجمع في الساحة المعروفة وسط المباني
"القصديرية والبراريك"، نتساءل فيما بيننا: أين فلان وعلان... ها هم
جميع الأطفال قد جاؤوا.
كانت الزعامة لا يتولاها أحد (غيري)
طبعًا، بتوكيل من البقية، مجرم الحارة، أنا المخطط والمدبر والحكيم والقاضي العادل
عند النوازل.
حوالي عشرين طفلًا أو أكثر يلتفون
حولي، لا نملك كرة نلعب بها وإمكانياتنا محدودة أو منعدمة، فنبدأ بجمع القروش التي
نمتلكها، نبيع قنينات المشروبات الكحولية التي أفرغها السكارى في بطونهم البارحة،
وقطع الحديد "لمول النخالة"، وأمور أخرى... لا ثقة في الجيب، "شاد
جوج فرنك في يدك وقارم عليها".
كان قانونًا فطريًا وما زال، فمن يدفع
أكثر "عشر ريالات" (50 فرنك) يصبح الأمين العام والمتصرف للكرة
البلاستيكية، وتبيت عنده في منزله، ويا له من شرف بين الأطفال، أما من يشتريها من
حر ماله، فذاك شأن آخر.
بمشقة الأنفس، نجمع مبلغ "ثلاثة
دراهم"، ومن لا يدفع فلسًا عليه الانصياع لقرارات وأوامر الممولين الأغنياء،
"عد يا زمن". نحتار أي لون ستكون كرتنا الجميلة التي جمعنا ثمنها
بمشقة... نشتريها خضراء؟ لا، حمراء؟ لا، صفراء؟ لا، زرقاء؟ وتختلط الألوان علينا،
فتقع الانشقاقات حول اللون، ويفترق الأطفال إلى مجموعات، والمال عندي، مضطر لخلق
توافقات وتوازنات، فأبدأ في استفسار البقية عن مزايا كل لون من ناحية الجودة وضمان
الاستفادة من اللعب بها لمدة أطول.
فإذا أقنعنا فريق بجودة لون معين،
وكان بشهادة وموافقة الأغلبية، نشتري الكرة بذلك اللون، وغالبًا ما يكون لون كرتنا
"أخضر ولا قهوي" حيث نوع البلاستيك صلب، وهكذا نحقق الحلم ونشتري كرتنا
الجميلة.
نجري قرعة لتحديد أحقية اختيار أمهر
اللاعبين، نطوف حول دائرة، وكان دستورنا يقول: يحق للفائزين بالمرتبتين الأولى
والثانية تشكيل فريقين فيما بينهما، كما يحق للفائز بالمرتبة الأولى اختيار لاعبين
يضمهما إليه دفعة واحدة، قوانين الحكومة اليوم اخترعناها نحن في الصغر بعفوية.
"عد يا زمن".
تبدأ عملية تشكيل الفريقين، أحصل على
المرتبة الأولى دون منازع، وكان لي خصم عنيد حلمه أن يسبقني ذات مرة... أختار
لاعبين: الحسين وبهلول، بينما يختار هو "جورجوية"، وهو لقب لطفل، تستمر
العملية، "طبيعي هادوك الآخرين حيت مساهمين في مشروع كرتنا السحرية أو غير
مساهمين، لن نفرط فيهم"، نشكل فريقين، تبدأ المباراة من الساعة العاشرة
تقريبًا ولا تنتهي أبدًا حتى يخيم الظلام.
في بعض الأحيان، كنا نلعب جميعًا على
مرمى واحد، مباريات ورياضة دون توجيه، كراتنا كانت لها حكايات وقصص لا تنتهي، تارة
تطير فوق براكة، وبمجرد أن "يخطو الواحد برجلُه حتى كيثقب سقف القصدير"،
ونهرب تحت لعنات المتضررين... أو تدوسها عجلة شاحنة أو سيارة، فنحمل الحجارة في
أيدينا ونحتج ونهدد: "راه إلا مشريتي لينا كورتنا نهرسو ليك الجاج!"،
فيفضل شراء الكرة مجبرًا.
أحيانًا تسقط كرتنا في فرن الخبز
وتحترق أمام أعيننا وتحرق معها مجهودنا، فتعوضنا "خالتي ميلودة" مولاة
الفران. أو يسرقها منا أحد الأطفال من الحومة الأخرى، فتتشكل عصابات التراشق
بالحجارة لاسترجاع الساحرة المستديرة. من يسرق كرتنا لا يحلم بالاحتفاظ بها
طويلًا، فنلاحقه أينما حل وارتحل، بالحجارة وأرجلنا تعدو في الركض ركضًا، ولأني
كنت أسرعهم، لا يفلت الجاني أبدًا، إلى أن يأتي باقي فريق الخلية. "عد يا
زمن". "كنت ألقب بالطير لمحني".
لكن أكثر اللحظات إيلامًا كانت عندما
يخرج "فرعون الحومة"، شيخ كهل "معكز" بأنف غليظ "شبع
طابة"، يقضي اليوم كله متربصًا، يتحين الفرصة إلى أن تقع كرتنا المسكينة بين
يديه، فيمزقها أمام أعيننا، ويمزق معها أحلامنا وبراءتنا الصغيرة دون رحمة أو شفقة.
منا من كان يحتج ويسب ويلعن، ومنا من
يتجرأ ويرميه بالحجارة.
بقي عدوًا لنا نحمل له الكره حتى مات،
فذكرناه بالسوء ولم نطلب له الرحمة.
عقولنا الصغيرة ساعتها فرحت بوفاته،
لكن قلوبنا البريئة حزنت على فراقه لعائلته.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك