أنتلجنسيا المغرب: فهد الباهي/م.إيطاليا
كنا
مُسَاخِيطُ الحُومَةِ في صغرنا، وكان الجيران يتبادلون الشكاوى فيما بينهم ضد
"جرائمنا" الصغيرة التي كانت في أعينهم كبيرة.
لم نكن نهتم
أو نبالي، فكل جار كان يوجّه الاتهامات لأبناء الجيران الآخرين، مستثنيًا أبناءه
من إحداث الفوضى والشغب والضوضاء، سواء وقت الظهيرة أو القيلولة أو حتى في ساعات
متأخرة من الليل، إلى أن نسقط في فراشنا جثثًا هامدة من شدة التعب والعياء
و"التَّحْنِقِيزُ" طول اليوم.
كنا نتضامن
فيما بيننا ونزكي تصريحات كل واحد منا إذا قُدمت ضده شكاية من أحد الجيران، عبر
شهادات "لئيمة" تحتوي على القليل من المكر، وذلك حتى لا يُعاقب أحدنا
ويجد نفسه معتقلًا في البيت محرومًا من اللعب، ما كان سيجعلنا نفقد "النصاب
القانوني" لألعابنا اليومية، مثل "الجري، دينيفري، الطرومبية، كشكاش،
غميض البيض"...
من بين
"جرائمنا الصغيرة"، كنا نشكل عصابات شبه حقيقية، متأثرين بأفلام
"الويسترن"، ونخوض حروبًا مع أبناء الأحياء المجاورة، حيث كنا نتبادل
الضرب والرجم بالحجارة بكل عنف، وأحيانًا نطور صناعتنا إلى أسلحة بيضاء تفوق
أعمارنا، مثل "المقلاع" و"الحياح"، لتحقيق انتصارات غبية.
وكانت تقع
خسائر وإصابات في صفوفنا وصفوف "أعدائنا" الأبرياء، في رؤوسنا وأجزاء
متفرقة من أجسامنا، فنضطر لمعالجتها بطرق بدائية مثل "البول، التحميرة، أو
الرمل" لإيقاف النزيف، في حروب غير محسوبة العواقب.
اليوم، يعاقب
الآباء أبناءهم أشد العقاب على تصرفات كانوا هم أنفسهم يرتكبون أضعافها، فأي
"صراع أجيال" هذا؟ كنا نتستر على مصائبنا خوفًا من عقاب أشد، وحقًا، كنا
"أَبَالِيسُ زَمَانِنَا".
في تلك الفترة،
كان الجميع يحكم ويتحكم في المرأة، والويل ثم الويل لفتاة ترافق شخصًا غريبًا عن
"الحومة". كنا نمارس "شرطة الأحياء"، نلاحق العاشقين بالحجارة
ونطاردهم بالصراخ: "طَلَقَ
الدَّجَاجَةَ لِمَالِيهَا رَاهُ تَضِيفُ وَتُوحِلُ فِيهَا"،
وكان المقصود بـ"تَضِيفُ" هو الحمل والإنجاب في الحرام، ما كان يُعتبر
عارًا على أهلها.
عمليات
الإجهاض حينها كانت تتم بسرية تامة وبمبالغ باهظة، أو بطرق بدائية عند العرافات
والمشعوذين، حسب ما كنا نسمعه في "عصابتنا" التي كبرت اليوم.
إذا تأكدنا
أن الفتاة برفقة شاب في علاقة غير شرعية، كنا نرسم خطة بسرعة البرق، ونتفرق ثم
نعود لمهاجمتهم بالحجارة و"التَّسْفَارُ"، محرمين عليهم اللحظات
الحميمية التي وقعنا ضحيتها حين كبرنا. كنا ظالمين، وكم من عاشقين
"بهدلنا".
كانت الفتاة
المسكينة تلجأ إلى أحد أفرادنا ترجوه ألا يخبر أهلها، وأحيانًا ترشوه بقطعة
"حَلْوَةُ المَكَانَةِ" أو "تِيسُو". رغم صغر سننا، منحنا
أنفسنا صلاحيات لم تكن لنا ولا من حقنا.
آنذاك، لم
يكن الأب أو الأم أو الأخ هو الحاكم، بل كانت الحشمة والوقار والحياء والاحترام هي
التي تحكم، كانت التقاليد والعادات هي السلطة العليا.
اليوم، استبدلنا هذه القيم بمصطلح
"التربية"، فماذا كانت النتيجة؟ .
وما الفرق بين "الحكم"
و"التربية"؟ .
وأيهما أصلح
للحفاظ على مجتمعنا من التفسخ والتفتت وضياع الهوية؟ .
التلفاز اليوم لم يعد مجرد وسيلة للترفيه أو نقل الأخبار، بل تحول إلى
نافذة تفرض علينا محتويات لا تتماشى مع قيمنا، تدخل بيوتنا دون استئذان، ممولة من
أموال الضرائب التي ندفعها، في ظل هذا الواقع، يجد الآباء أنفسهم أمام معركة
تربوية صعبة، حيث تتسلل مشاهد وسلوكيات لا تمت لأخلاق المجتمع بصلة، لتؤثر على وعي
الأجيال الصاعدة وتربيتهم.
ورغم أن التلفاز بات جزءًا لا غنى عنه في الحياة اليومية، إلا أن
التحكم في المحتوى ومراقبة ما يشاهده الأبناء أصبح ضرورة ملحة، الحل قد يكمن في
اختيار البدائل المناسبة، وفرض رقابة واعية داخل البيت، لضمان أن تكون هذه الوسيلة
أداة بناء لا هدم، تساهم في ترسيخ القيم لا في تدميرها.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك