من قاع الخابية: فهد الباهي/م.إيطاليا
في ليلة حالكة
السواد، اشتد المطر وهبت الرياح العاتية، وتعالى دوي الرعد كأن السماء تتمزق
والأرض توشك أن تنشق إلى أجزاء.
الحياة في كوخ
متواضع في قلب الريف، جلس "حمادي" بجانب زوجته الحامل "صبرة"،
التي بدأ المخاض يعصف بها ويحرك أحشاءها، كان كل شيء في الخارج مذعورًا، البقرة
تموء، الكلاب تنبح، والدجاج يقاقي، وكأنها تشعر بالرهبة من العاصفة "خُوك".
تزايدت آلام
"صبرة"، واشتد وجعها حتى صار كالنصل يقطع أحشاءها، لم يكن أمام
"حمادي" خيار سوى أن يتولى الأمر بنفسه، جهز قدرًا من الماء الساخن وجمع
قطع القماش النظيفة "شَرَاوِط"، ثم جلس إلى جوارها يشجعها بصبر وقوة كي
تتمالك نفسها "زَحْمِي زَحْمِي مِزْيَا" يردد، وبعد لحظات عصيبة، خرج الطفل
الأول.
تنفس
"حمادي" الصعداء معتقدًا أن الأمر انتهى، لكن المفاجأة كانت بانتظاره:
الحبل السري لم يُقطع بعد، وما لبث أن أدرك أن هناك طفلًا ثانيًا، "عَلَى بَابُو وَاقِف
قَمَرَيْن" وبالفعل، جاء المولود الثاني وسط العاصفة التي لم تهدأ بعد.
مرت الأيام
وتعافت "صبرة"، فيما راقب "حمادي" ولديه التوأمين وهما يكبران
يومًا بعد يوم، غمره الفرح قائلًا: "الحمد لله، أنعمني برجلين يحملان عني
الحمل عندما يكبران"، كبر الصغيران وكبرت معهما رابطتهما القوية، لا يفترقان
أبدًا، يلبسان نفس الملابس، ينامان في فراش واحد، حتى أن أمهما كانت أحيانًا تعجز
عن التفريق بينهما.
لكن كأي إخوة،
لم تخل أيامهم من الخصام والمشاكسات، وحين يأتي أحدهما شاكيا، كانت
"صبرة" تردد بحكمة: "خوك خوك"، ويكمل "حمادي"
مبتسمًا: "حتى تجي مرات خوك"، لم يكن أحد يفهم سر ضحكته تلك.
مرت الأيام
وأصبح الشقيقان شابين يافعين، وقررا الزواج، "بَلْعَمَان فَتْح" فرح الأبوان بزواجهما، لكن لم يمض وقت
طويل حتى بدأت المشاكل تدب بين زوجتيهما، صار كل واحد يأتي إلى أمه شاكيا من زوجة
أخيه، فكانت "صبرة" تحاول تهدئتهما بلا فائدة، أما "حمادي"،
فكان يجلس في زاوية الدار يحتسي شايه، "وَيَضْرِب الشُّقُوفَة" ويتنغم، يراقب بصمت ويضحك ضحكته
المعتادة، غير مبال بالخصام.
وذات مساء،
نفد صبر أحد الشابين وسأل والده: "لماذا يا أبي كلما قالت أمي: خوك خوك،
تتبعها بقولك: حتى تجي مرات خوك؟ ولماذا تضحك؟".
نظر إليه
"حمادي" نظرة طويلة، ثم ابتسم وقال: "يا ولدي، هذه ليست مجرد
كلمات، بل هي قصة تكررت كما تدور الرحى حول نفسها.
كنت أنا وأخي
مثلكما، لا نفترق أبدًا، إلى أن تزوجت من أمك، حينها، لم تكن علاقتها بأخي وزوجته
على ما يرام، ووجدت نفسي في دوامة من الخلافات، حاولت إصلاح الأمور، لكني أدركت أن
الظلم كان من أمك، ورفضت أن أكون طرفًا في الصراع، فاضطررت لمغادرة بيت والداي،
وانقطعت علاقتي بهم لفترة طويلة.
كنت بين
نارين: أمك التي كانت حاملًا بكما، وأهلي الذين لم يعد لي بينهم مكان، اخترتكما يا
ولدي، لكني كنت أعلم أن الزمن دوار، وها قد عادت القصة لتتكرر معكما".
ساد الصمت،
وبدأت الكلمات تتغلغل في عقل الشابين، تبادلا نظرات الفهم، ثم نهضا وعادا إلى
زوجتيهما بلهجة صارمة: "إما أن تتوقفا عن هذه النزاعات التافهة، أو سيكون
الطلاق هو الحل".
بفضل ذلك
القرار الحاسم، عاد الهدوء إلى البيت، وسرعان ما تصالح الجميع، واجتمعوا مع جدهم
وجدتهم وعمهم وأبناء عمومتهم، فأصبحوا قوة في القبيلة بعدما كانوا مجرد أفراد
متفرقين.
أما
"حمادي"، فظل يبتسم بين الحين والآخر "يَضْرِب جُوج شُقُوفَة
وَيَقُول أَفْ عَلَيْكَ يَا دُنْيَا"، متذكرًا أنه رغم كل شيء، فإن الحياة لا تكف
عن إعادة نفسها.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك