من قاع الخابية : " وَسِيرِي يَا دْجَاجَة حَتَّى لِتَازَةَ " .

من قاع الخابية : " وَسِيرِي يَا دْجَاجَة حَتَّى لِتَازَةَ " .
قصة قصيرة / الثلاثاء 18 مارس 2025 - 22:00 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب: فهد الباهي/ إيطاليا

في أحد الأيام، كان "المشمر"، تاجر الأغنام والماعز القادم من نواحي تازة، يتجول في الأسواق بحثًا عن أفضل الصفقات، "سْبَايْبِي" كان لا يعرف الكلل أو الملل، دائم الترحال بين القرى والأسواق البعيدة، مرتديًا لباس التجار المعروف: "اَلْبْلُوزَةُ، اَلْبُورْدُو، وَاَلطَّاقِيَةُ".

وصل "المشمر" إلى أحد أسواق دكالة، يتطلع لشراء بعض رؤوس الماعز، لكنه لم يجد ما يناسبه رغم ساعات من البحث، قرر أن يأخذ استراحة في أحد المقاهي الشعبية، وطلب وجبة دسمة: "زْلَافَة بَيْصَارَةَ، خُبْزَة مْحَرَّاشَة، وَبْرَادْ شَايٍ سَاخِنٍ"، "كَانْ شْوِيَّة عْيَانْ وَصَافِي".

بعدما أنهى فطوره، استأنف جولته في السوق، وأخيرًا وجد ما كان يبحث عنه، مدّ يده إلى جيبه ليخرج النقود، لكنه لم يجد شيئًا، "لْقَى غِيرْ اَلْبْرْدْ". بحث في كل مكان، عاد إلى المقهى، جال في الطرقات التي مر منها، لكن المال اختفى تمامًا.

وقف "المشمر" حائرًا، لا يملك حتى ثمن تذكرة العودة إلى قريته، السوق بدأ يفرغ شيئًا فشيئًا حتى غادر الجميع، "اَلرَّحَابِي خْوَاتْ وَدَعَاوِي اَلْخِيرْ تَقْلَبْ فِينْ تْبَاتْ"، وبقي وحيدًا في أرض لا يعرف فيها أحدًا.

كان الليل قد حل، فاستند إلى جذع شجرة ليستريح، وأخذه النوم من شدة التعب.

في تلك الليلة، كان "الجيلالي" عائدًا من مأتم أحد أقاربه، فلاحظ جسدًا مستلقيًا تحت الشجرة، ظنها رزمة أمتعة، لكنه اقترب ليجد رجلاً، ظنّه ميتًا، تحسس أنفاسه فوجده حيًا، فتردد بين إيقاظه أو المضي في طريقه، فمضى...

ابتعد "الجيلالي" بضع خطوات، لكنه توقف، بدت له ملابس الرجل نظيفة، لا توحي بأنه متشرد أو سارق، عاد إليه مجددًا، وبمجرد ما اقترب، استيقظ المشمر مفزوعًا ممسكًا بعصاه "اَلْبُورْدُو" في يده ليدافع عن نفسه.

طمأنه الجيلالي وسأله: "مَالْكْ نَاعِسْ هْنَا فِي هَاذْ اَلْخْلَاءْ؟".

فأجابه المشمر بحزن: أنا غريب عن الديار، ولا أعرف أحدًا هنا. وبينما كانا يتحدثان، سمع "الجيلالي"" "بطنالمشمر" تقرقر، فأدرك أنه جائع فكف عن طرح الأسئلة.

لم يشأ أن يحرجه، فعرض عليه المبيت في بيته، ووعده بالمساعدة قدر استطاعته. قبل المشمر الدعوة، وذهب معه إلى البيت، أيقظ "الجيلالي" زوجته وقال لها:

لدينا ضيف، هل من طعام؟

فأجابته: "لا يوجد إلا الدجاجة" .

بدون تردد، أمسك "الجيلالي" بالدجاجة وذبحها، "مْخَلَّاهَاشْ حَتَّى تْفِيقْ مْسْكِينْة غِيرْ لَصْبَاحْ"، وأعطاها لزوجته لتطبخها. أعدت الخبز الساخن، وهيأ له مكانًا للاغتسال والصلاة، وحينما أصبح الطعام جاهزًا، جلس "المشمر" يأكل بنهم، بعد أن عضه الجوع عَضًّا.

تبادلا الحديث، وعرف الجيلالي أن ضيفه تاجر من إحدى القرى بـ تازة، يتجول في الأسواق لكسب رزقه.

وفي الصباح، أخرج "الجيلالي" رزمة من المال، وأعطاها للمشمر قائلاً: "هذا ما لدي الآن، لعله يعينك على النوائب والعودة إلى أهلك" .

دمعت عينا "المشمر"، متأثرًا بهذا الكرم النبيل، وقبل أن يغادر، وقف عند الباب والتفت لـ "الجيلالي"، فإذا به يضحك قائلاً: "وَسِيرِي يَا دْجَاجَة حَتَّى لِتَازَةَ"، تبادلا الابتسامة والتحايا، وغادر "المشمر" إلى حال سبيله عائدًا إلى أهله.

مرت الأيام، ودارت عجلة الزمن، وذات يوم قادت الصدف الجيلالي للسفر.

في أحد الأسواق الأسبوعية بتازة، كان "الجيلالي" يتجول بين الباعة، يبحث عن بعض الحاجيات، ازدحام السوق وصياح الباعة وروائح المشوي والبهارات خلقت أجواء نابضة بالحياة.

كان متجهًا نحو أحد بائعي التوابل، حين سمع صوتًا مألوفًا ينادي بصوت جهوري:

"اَلْمَاعِزْ اَلْأَصْلِي.. اَلْجُودَةُ وَالثَّمَنُ! ذْبَحْ وَكُولْ عَادْ خْلَّصْ!"

توقف "الجيلالي" للحظة، وتلفت حوله، شعر أن الصوت ليس غريبًا عليه، اقترب من الرجل الذي ينادي، كان يقف بفخر بجوار قطيع من الماعز، مرتديًا نفس "اَلْبْلُوزَةُ وَاَلطَّاقِيَةُ"، وعصاه "اَلْبُورْدُو" الذي لا يفارقه. لم يصدق "الجيلالي" عينيه...

فعلاً إنه "المشمر"

ابتسم الجيلالي، لكنه قرر أن يختبر ذاكرة الرجل، فوقف بعيدًا عنه قليلًا ثم صاح بصوت مرتفع: "وَسِيرِي يَا دْجَاجَة حَتَّى لِتَازَةَ"


تجمد "المشمر" في مكانه، وكأن الزمن عاد به سنوات إلى الوراء، التفت بسرعة، بحث بعينيه وسط الزحام، ثم رأى "الجيلالي" يبتسم له من بعيد. للحظة، لم يصدق "المشمر" نفسه، لكنه فجأة انفجر ضاحكًا بصوت عالٍ، ورمى بعصاه في الهواء فرحًا، قائلاً:

"أُقْسِمْ بِاللهِ يَا اَلْجِيلَالِي، كُنْتْ كَنْقَلَّبْ عَلِيكْ وَاللهِ جَابَكْ حَتَّى لَعَنْدِي!"

ركض "المشمر" نحوه وعانقه بحرارة، وكأنهما أخوان افترقا منذ زمن، بدأ يضحك وهو يطبطب على كتف الجيلالي قائلاً:

"هَدِي أَحْسَنْ صُدْفَةٍ فِي حَيَاتِي وَاللهِ حَتَّى تْذُوقْ اَلْيُومْ غْدَاكْ وَعْشَاكْ عَنْدِي تْبَاتْ!"

"شْتِي اَلدَّجَاجَة لِيُومْ عْتْرُوسْ عَلَى حْسَابِي!"

ضحك "الجيلالي" وردّ مازحًا: "اَلْمُهِمْ هُوَ تْجْلِسْ فِي دُوَّارَكْ بَاشْ مَتْبْقَاشْ طِيحْ لَفْلُوسْ!"

ضحكا طويلًا، وكل منهما يستعيد تلك الليلة التي جمعت بين غريب وضيف كريم.

 أدرك "المشمر" أن المعروف لا يُنسى، وأن يد الخير تمتد عبر الزمن لتعيد الدفء إلى القلوب، لم يكن المال هو الأهم، بل تلك النخوة التي جعلت " الجيلالي " يمد يد العون دون تردد، فها هو اليوم يحصد ثمرة إحسانه في لحظة لم يكن يتوقعها.

بقيت القصة درسًا حيًا بأن رد الجميل لا يكون فقط بردّ المعروف نفسه، بل بأحسن منه، وبأن الخير يعود لصاحبه بأضعاف ما قدم. وتأكد المشمر أن الحياة دوارة، وأن من يصنع المعروف يومًا، سيلقى من يرده له بأجمل صورة حين يحتاجه.

ما تقدمه من خير يعود إليك ولو بعد حين، فالحياة تدور، وتخبئ لك لحظات ترد لك إحسانك بأجمل مما تتخيل، كما وجد "المشمر" "الجيلالي" في وقت شدته، أعاده القدر إليه ليشكره بأحسن مما تلقى.

ازرع المعروف، وستجني ثماره في اللحظة التي تحتاجها.

 

 

 

 

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك