أنتلجنسيا المغرب: فهد الباهي/إيطاليا
تسمع واهْ يَا الزَّغْبِي، وَاهْ يَا
الْمُفَشْشِنِي، كل يوم خناقة يختمها بلكمات وخاتمين بالون الأزرق الناصح يرسمهما
في عينيها من قوة التسديدات ولا أعلم "فِينْ التَّفْجَاجْ"، كان يضل
"هَازْهَا" في الطيارة يتسارى بيها العالم، وتسترسل في نواحها، وَاهْ
يَا الْكَبِيدَة، "لْوَاهْ الطَّيْحَانْ"، نوضي الله يجيبك على خير.
وأخريات "الْهَاشِمِيَّةُ وَمَنَّانَةُ
وَالْعَبِيشِيَّةُ" يندبن خدودهن ولا علاقة لهن بالهالك(ة) يفرغن قلوبهن
بالبكاء فقط، ويسترسلن في إنتاج أصوات النواح والعويل وتنظيم تراتيل "يا يا
يا الْمُفَشْشِهَاا" "يا يا يا الزَّغْبِي لِمَنْ خَلِّيتِيهَاا"،
وعلى هذا النحو، وهي تتمرغ في الأرض وتتلوى ككبرى في بركة مائية
"الْغِيَّاسَةُ".
يتجمع الجيران في المأتم، ويخرجن حصائر من الدوم
و"بِشْطَابَاتْ" يدوية الصنع وأفرشة توضع على الأرض بعدما يقوم فريق من
النساء بعملية الرش وتنظيف المكان بسرعة فائقة "بِشْطَابَاتْ" من رؤوس
الأشجار تترك مناظر خربشات في الأرض وكأنها لوحة سحرية عندما تتأمل فيها جيدًا.
يجلس "بَا حْمَانْ" في مكان غير بعيد عن البقية يذهب
إليه الآباء ويسلمونه مبالغ مادية يضعها في قب جلبابه أو حجره يبقى متسمّرًا في
مكانه حوالي ساعة وأزيد من الزمن، يرسل من ينادي على الفقيه يخرج مالًا من المال
الذي جمعه من المساهمين يسلمه لواحد من المتعقلين، يذهب لشراء الكفن وحصيرة القبر
وماء الزهر والصابون وكل اللوازم، يسلمها للفقيه الجالس وحده في وقار تام فوق
حصيرة ينتظر إحضار الكفن.
جاء الكفن، يبدأ الفقيه المختص والعارف عملية فصالة وخياطة
الكفن وصديق الفقيه أو شريكه منشغل في إعداد وتجهيز تغسيل المرحوم إذا كان رجلًا،
وبطبيعة الحال إن كانت امرأة تتكلف المختصة بالنساء.
"بَا حْمَانْ" لا يتحرك من مكانه، ينادي واحدًا آخر وبنفس
الطريقة يهمس في أذنه ويسلمه مبلغًا في يده ما تلتقطه أذاننا الصغيرة ونسمعه غير
"سَرْبِي رَاسَكْ دَابَة تْكُونْ هْنَا" في إلحاح شديد على أداء المهمة
بعجل.
تمضي برهة من الزمن نشاهد مرسول "بَا حْمَانْ" بصحبة
عربة محملة بالخضر وأكياس الطعام والطيور المذبوحة في سطل كبير والسكر والزيت وعلب
الشاي وكل المقضيات والضروريات التي يحتاجها المأتم، نفهم أن الأخير ذهب لقضاء تلك
المهمة.
الآخرون منشغلون في بناء الخيمة على البقعة التي نظفتها النساء
بسواعدهن الكريمة، تسمع "جُرْ مِنْ لْهِيَّهْ جُرْ دَفْعْ وَصْبَرْ بْلَاتِي
وَطْلَقْ رْخَفْ زِيرْ" في جو من التعاون والتضامن، تبنى خيمة العزاء، ينهض
"بَا حْمَانْ" نحوها بمشيته الثقيلة الواثقة وبكل تباطؤ يتمايل ويتمختر
منفوخًا في جلبابه الذي يلبس تحته على الأقل أربعة جلابيب أخرى، وكان هذا أحد
مظاهر النخوة والابهة، يلج الخيمة ينتظر موعد اقتراب عملية الدفن يوجه رسله إلى
عائلات المرحوم(ة) لإخبارهم "كان شي واحد يمشي يعلم الناس يجي حتى الليل
يلقاهم دفنوا وسلاو" ولا يستفد من مذاق الطعام الذي كان له مذاق ذو لذة خاصة،
وفيه بركة وحسنات لا تعد ولا تحصى "كل حبة طعام بحسنة" هكذا علمونا،
نأكل بشراهة لنجمع أكبر عدد من الحسنات في بطوننا.
الكل حزين يبكي لفقدان واحد من الجيران، يتبادل الجيران
التعازي في ما بينهم ولا أحد يسأل من أنت أو ما علاقتك بالمرحوم، كان الفقيد
فقيدًا للجميع.
تسلم جثة المرحوم إلى بارئها في موكب جنائزي رهيب يحضره كم
غفير من أهالي الدوار كبار وصغار، شباب وشيوخ...، "يدفن" في المقبرة
الإسلامية، ويرجع الجميع لتناول وجبة الطعام...، وتهدم الخيمة ساعتها وينصرف
الجميع إلى حال سبيله وإن كان شيء من المال بقي لدى "بَا حْمَانْ" سلمه
لأهل الهالك(ة).
في هذا الزمان اليوم تأخرت العقول وكثر التفكير في البطون، حيث
إن الجنازات تتحول إلى أفراح عند أناس لا أخلاق لهم، بدل التعاون والتخفيف عن
أهالي المتوفي أو المتوفية، يتجمعون في حشود وينتظرون نوع الطعام اللحم بـ
"البرقوق" واللوز.. والدجاج المحمر والمسروبات.. ما أتى الله بهذا في
كتاب "إنها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار".
أرى أنه في زمن الغلاء هذا، وجب مباشرة بعد الدفن كل ينصرف إلى
حال سبيله، وتقديم مساعدات مالية لأهل الهالك(ة)، ليجارون أحوالهم مع القادمين من
مدن أو قرى بعيدة...
وأيضًا في زمننا الحالي، تسمع البنت تتحدث : "أَلُو
بَابَا شْتِي طَاطَا مُوزَةُ تُوُفِّيَتْ هَادَ الصَّبَاحْ"، الأب يرد
"أَلُو وِي بِنْتِي شْكُونْ طَاطَا مُوزَةُ الْغَزَالَةُ دِيَالِي، طَاطَا
مُزْوَارَةُ خَالْتِي وَأُخْتُكِ لِي مْشِينَا عَنْدَهَا الْعْرُوبِيَّةُ
كَتْرَكَّبْنَا عَلَى الْحِمَارْ وَكْتَعْطِينَا نَشْرَبُوا حْلِيبْ الْبَقْرَةِ
بْنِينْ نْسِيتِيهَا، إِيوَا صَافِي نْسَايْ عَلَيَّا...، أَجِّلِي الْمَوْضُوعَ
اِبْنَتِي أَنَا الْآنَ فِي اجْتِمَاعٍ سَوْفَ أُرْسِلُ لَهُمْ رِسَالَةً
نَصِّيَّةً "مِسَاجْ" نُعَزِّي فِيهَا.
في عصر
الحداثة والتطور لم يعد يجد الإنسان وقتًا للعزاء ودفن أقرب المقربين منه، الأم
والأخت والأب والأخ، لماذا؟ .
وإلى أين
نحن ماضون؟ .
نسليط الضوء على تغير العادات والتقاليد المتعلقة بالموت
والدفن في المجتمع، وكيف أن التقاليد التي كانت تتسم بالتعاون والتضامن بين
الجيران وأفراد العائلة قد تأثرت بعوامل العصر الحديث، كان العزاء في الماضي يشهد
روحًا من الوحدة والتكاتف، حيث يتعاون الجميع في تجهيز المكان والطعام، ويشمل ذلك
التضحية والجهد الجماعي لتخفيف معاناة أهل الميت.
لكن في الزمن الحالي، تغيرت هذه الصورة بشكل كبير، حيث أصبح
العزاء في كثير من الأحيان يتعلق بالمظاهر والملذات، مثل تناول الطعام الفاخر
والاحتشاد للتسلية بدلاً من التضامن والمواساة، كما أن التقدم التكنولوجي قد جعل
البعض يتجاهل أهمية المشاركة في المواقف الإنسانية، كالعزاء والدفن، بسبب الانشغال
بالأمور الحياتية اليومية.
ونشير أيضًا إلى تحول الروح الجماعية التي كانت سائدة في
المجتمعات التقليدية إلى عزلة فردية وصعوبات في إظهار مشاعر الحزن والتضامن، وهو
ما يعكس تراجع القيم الإنسانية العميقة في بعض الأحيان.
ندعوا إلى العودة إلى المبادئ التقليدية التي تقوم على التعاون
والمواساة بدلًا من الانشغال بالماديات والشكليات.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك