من قاع الخابية : " كُولّ التِّبْن وَذَهِّنْ فْمَكْ بِالسَّمْن "

من قاع الخابية : " كُولّ التِّبْن وَذَهِّنْ فْمَكْ بِالسَّمْن "
قصة قصيرة / الجمعة 14 مارس 2025 - 22:00 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب : فهد الباهي/إيطاليا

في إحدى القرى الهادئة، كان هناك رجل اسمه "الفضل" يُعرف بين الجميع بكرمه وطول صبره.

كان يعمل بجد ليلًا ونهارًا من أجل إسعاد الآخرين، ولم يكن يتوانى عن مساعدة من يحتاج إلى يد العون، سواء كان جاره مريضًا أو فقيرًا كان "الفضل" دومًا أول من يتدخل لتقديم الدعم المالي والمعنوي للأهل والأحباب والجيران... على الرغم من كل هذا الجهد، كانت حالته المادية جيدة، وكان يحافظ على وزنه وشكله الصحي، ويعيش حياة مستقرة مع أسرته.

لكن مع مرور الوقت، بدأ الناس يلاحظون طيبته الزائدة، وبدأوا يقترضون منه المال بشكل مستمر، كان يضطر دائمًا للموافقة، رغم أن زوجته "الحيطة" كانت تحذره دائمًا من الناس الذين يستغلون طيبته وتقول له: "لا تثق كثيرًا، يا "الفضل" فالناس سيستغلونك".

ورغم تحذيراتها، كان لا يستطيع أن يرفض أي طلب، "الفْمْ لِي يْقُولْ لا مَا كَايْنْشْ" كان لا يقول "غير موجود مرحبًا"، يكرم ويعطي بلا حدود، كانت هذه كلماته الشهيرة: "دِّيرْ الخِيرْ تْلْقَى الخِيرْ".

ومع مرور الوقت، زادت الديون عليه بشكل كبير مع التجار الكبار الذين يتعامل معهم، وتراكمت عليه المشاكل المالية بشكل لم يكن يتخيله، ولم ترحمه زوجته "الحيطة" التي كانت تحذره دائمًا دون فائدة أو نتيجة من لغطها ومحاسبتها حيث كانت كل يوم تحذره وكأنها تنبهه إلى مصير مظلم قادم، لكنها كانت تجد نفسها عاجزة أمام إرادته الصلبة في تقديم المساعدة.

كانت زوجته "الحيطة" ترى أن الأمور لن تنتهي بشكل جيد، وكانت دائماً تكرر له الحكمة المعروفة: "لا تكن صلبًا فتكسر - ولا تكن رطبًا فتعصر"، وخير الأمور أوسطها، لكنها كانت تلاحظ أن "الفضل" لم يكن يستطيع أن يتوقف عن مساعدة الآخرين، وكان يتمنى فقط أن يحافظ على سمعته الطيبة رغم التضحية بكل شيء.

ثم جاءت اللحظة التي بدأ فيها "الفضل" يواجه عواقب طيبته الزائدة عندما طالبه التجار بمستحقاتهم، وباع كل ما يملك من مجوهرات زوجته، وبيع الدكان والخيل والعربات وكل شيء من أجل تسديد ديونه، حتى عندما ضاقت به الحياة، كان يظل يظهر أمام الجميع كأن لا شيء قد حدث، كان يحافظ على أن يكون بلباس أنيق ويذهب إلى المسجد، حيث كان يظل هناك في زاوية يناجي الله وحده، يظهر الصبر والابتسامة، بينما كان يشعر بالجوع والعوز "عَزِيزْ النَّفْسْ".

" كِيفْ يُحْتَفَظْ بِالصُّورَة الطَّيِّبَة فِي وَقْتٍ عَاصِف؟"

كان هذا السؤال الذي يشغل ذهن "الفضل"، الذي وجد نفسه في قمة الضعف بينما يواجه العالم بمظهر القوة، كان يمشي بين الناس مبتسمًا، وكأن كل شيء على ما يرام، ولكنه في الداخل كان يشعر بثقل التضحيات التي قدمها وتوجع.

أما ابنه "لحسن"، فقد بدأ يشعر بالغضب من حالتهما المزرية، لم يكن يصدق كيف تحولت حياة والده الذي كان يومًا من أغنى التجار، إلى الفقر بسرعة، وعندما رأى والده يذهب إلى المسجد كل يوم، يرتدي أفضل الثياب كأنما لا شيء تغير، بدأ يفقد صبره وقال لوالده: "ألم ترَ يا والدي كيف أصبح حالنا؟ وكيف تسمح لك نفسك وتحافظ على مظهرك وأنت لا تجد ما تأكله؟".

رد الوالد "الفضل" عليه: "يا لحسن، اسمعني جيدًا: "لباسك يرفع مقامك قبل جلوسك"، لا تُظهر ضعفك لأحد، لأنهم سيتظاهرون بالتضامن معك والتأسف لحالك لكنهم سيتشفون منك في غيابك، يجب أن تلعب على المظهر الخارجي حتى لا تظهر نقائصك للناس وتزيد تدمرا، لن ينقذك إلا الله ونفسك، "رَاهْ مَا يْحِسْ بِالْمَزُّودْ غِيرْ لِّي مَضْرُوبْ بِي"، الناس لا يهتمون بالجوهر بقدر ما يهتمون بالمظهر، تذكر نصيحتي دائمًا، يا "لحسن"... "كُلّ التِّبْن وَذَهِّنْ فْمَكْ بِالسَّمْن"، هذا هو سر القوة في الحياة، أن تُظهر القوة ولا تستسلم وأنت في أحلك وأضعف لحظاتك".

"مَا نَرَاهُ فِي الظَّاهِرِ لَيْسَ دَائِمًا هُوَ الحَقِيقَة" .

كانت هذه الكلمات التي بدأت تطرق ذهن "لحسن" مع مرور الأيام، فهو كان قد تعلم من والده أنه لا يمكن للبشر أن يقيّموا الحياة من خلال مظهرها فقط، فكان يظهر دائمًا بمظهر قوي رغم داخله الممزق.

سار "لحسن" على خطى والده، وذهب للعمل مع تاجر كان صديقًا لوالده، وبفضل عمله الجاد وإخلاصه اكتسب احترام التاجر الذي عرض عليه الزواج من ابنته الوحيدة. وافق "لحسن" على العرض وبعد سنتين من العمل الدؤوب، توفي التاجر، وأصبح "لحسن" مسؤولًا عن إدارة التجارة. تحسنت حالته المالية بشكل كبير، لكنه تعلم الكثير من تلك التجربة، لقد أدرك الآن أنه لا يجب أن ينخدع بالمظاهر وأنه يجب أن يكون حذرًا في كيفية مساعدة الآخرين. لقد تغيرت طريقة حياته وتعامله مع الناس، وخصوصًا مع من كانوا يستغلون والده "الفضل" وطيبته في الماضي.

وكان "لحسن" قد تعلم درسًا آخر في تلك الرحلة، وهو أن الحياة ليست دائمًا كما تظهر على السطح، وأن من يظل صامدًا في أصعب الأوقات سيكون لديه فرصة أكبر في التغيير والنمو، الطيبة الزائدة قد تؤدي إلى التضحية ولكن يجب أن تكون مدروسة، هذه الحكمة التي أصبحت جزءًا من تفكيره، جعلته يضع حواجز ضد استغلال الآخرين، مع الحفاظ على قلبه النقي الذي لا يتخلى عن العطاء.

الحكمة من القصة تكمن في أن الطيبة الزائدة دون حدود قد تؤدي إلى الاستغلال والمشاكل، وأن الإنسان يجب أن يوازن بين العطاء وحماية نفسه من الاستغلال، كما أن المظاهر تلعب دورًا مهمًا في كيفية تعامل الناس مع بعضهم البعض، ولذلك يجب أن يُظهر الإنسان القوة والصبر حتى في أصعب الأوقات.

القصة تعلمنا أن الحكمة تأتي من الخبرة، وأن الإنسان يجب أن يتعلم من أخطائه السابقة ليحمي نفسه ويحسن تعامله مع الآخرين، في النهاية، العطاء يجب أن يكون مدروسًا وليس عشوائيًا، لأن الحياة تتطلب حذرًا وذكاءً في التعامل مع المواقف.

 

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك