بقلم:الحسين بوخرطة/مهندس رئيس ممتاز
عاش المغرب أوضاعا صعبة في زمن مقاومة المستعمر. التفت القبائل والعشائر وسكان المدن حول زعماء الحركة الوطنية، أحس المواطن في جل ربوع المملكة المغربية بمعنى التضحية من أجل السيادة والوطن والدفاع عن تاريخ أمة. التهبت نيران المواجهة. آمن المقاومون مسبقا بقوة ومدلول شعار أمتهم "الله، الوطن، الملك". ارتفع صدى عبارة "لا يمكن للمغرب أن يتحول إلى مستعمرة دائمة لفرنسا". ارتبط مصير الشعب المغربي وأحلامه بالاستقلال. المغفور له الملك محمد الخامس كان بالمنفى. زعامات الحركة الوطنية وجيش التحرير في الميدان. تم كشف أوكار الخونة وألاعيبهم وما يجنون من ثروات كثمن لبيع تاريخهم ووطنهم. شاع الحديث بعد ذلك عن مفاوضات اكس ليبان التي جمعت وفدا من الحكومة الفرنسية مع وفد من الشخصيات الحزبية والسياسية والوجهاء المغاربة عام 1955. توجت هذه المحطة التاريخية بالاتفاق على معالم حصول المغرب على استقلاله عن فرنسا عبر إنهاء نظام الحماية، وبلورة تصور للعلاقات المستقبلية بين البلدين.
تم توقيع قرار الاستقلال رسميا بعد عقد من الزمن عن صدور الإعلان الشهير بتاريخ 11 يناير 1944. إنها الوثيقة التي دعا فيها القوميون المغاربة إلى استقلال المغرب بمجموع ترابه الوطني في عهد محمد الخامس بن يوسف، فضلا عن السعي لإقامة حكومة دستورية ديمقراطية تضمن حقوق جميع فئات المجتمع.
التحم الشعب المغربي بزعامات حركته الوطنية وجيش تحريره حول الملك رمز الوحدة والسيادة. لم يدم هذا الالتحام طويلا. التطورات الجهوية والدولية والأطماع بمختلف مصادرها وطبائعها لم تكن في صالح الدولة المغربية الفتية. تعسفت عبارة "القوة الثالثة" ونجحت في أن تضمن حياة سياسية ثانية لروادها الموالين لفرنسا. تم الحديث عن "تفريخ" الأحزاب السياسية الإدارية. بتوالي محاولات الانقلابات، ساد الصراع العنيف طوال مدة نعتت بسنوات الجمر والرصاص.
عاش المغرب محاولات الانتقال الديمقراطي في بداية التسعينات. استثمرت التيارات الإسلامية توترات الربيع العربي. شاع الحديث عن تعاقدات سياسية جديدة منها المعلن ومنها الخفي. صادق المغاربة على دستور 2011. تراكمت شروط سيطرة المنطق الليبرالي على العمل الحكومي.
شاءت الأقدار ألا يستمر دعم رواد الحركة الوطنية وجيش التحرير للملك المرحوم الحسن الثاني ليبرز السؤال الحق: كيف كان سيكون مصير المغرب والمغاربة لو التف المقاومون والزعماء السياسيون بالنظام الملكي بدون شروط، وحرصوا على تقوية علاقاتهم مع المخزن المغربي منذ البداية؟ قد تكون الإجابة: "لقد تحقق ذلك في بداية سنوات التسعينات وما بعدها"، وقد يقول آخر: "هل لمستويات الثقة دور في ذلك، أم أن الحقيقة مرتبطة بمنطق سياسي دائم؟".
ما الحصيلة اليوم؟
• مشاريع ملكية رائدة. مردودية تحركات القصر برهنت عن نجاعة وقوة وقعها ميدانيا وسياسيا. المؤسسات التمثيلية والإدارية محليا وإقليميا ووطنيا لم تعد تتوفر على الإمكانيات المعرفية والكفاءة السياسية لتجسد آفاق الديمقراطية التشاركية ترابيا. أمام قوة القصر المعرفية في بلورة وتفعيل المشاريع الاقتصادية والسياسية والثقافية، لا يمكن لأي متدخل أن يدلو بدلوه في الشأن العام التنموي بدون تصدير خطاباته بعبارة "تنفيذا لتوجيهات جلالة الملك محمد السادس".
• العهد الجديد رسخ في أذهان المغاربة معنى خدمة الوطن بأمانة مقدما نموذجا حيا ليكون درسا يحتدى به.
• توتر المنطق العلائقي بين المناضل الجاد وحزبه وضعف التمثيلية النقابية في الوحدات الإنتاجية والمرافق العمومية.
• تروج فرضية تحول الاختباء وراء القصر إلى تعبير عن عقم مجتمعي لا يبرز من تفاعلاته إلا الطامعين في الريع والانتفاع.
• شاع الحديث اليوم عن اغتناء عدد من أسر وعائلات الحركة الوطنية وجيش التحرير ومن أجيال المعارضين من بعدهم. لقد رسخوا في أذهان المغاربة انطباعا سيئا في شأن السياسة وكأن الانتماء للمعارضة لم يكن يوما سوى مرادفا للمطالبة بالنصيب من خيرات الوطن بآلية التأزيم المهدد للاستقرار. في نفس الآن لم يعد مواطن يتردد اليوم في ربط الراغب في الممارسة السياسية بطمعه في الاغتناء السهل ولو بتحمله عقوبة سجنية في آخر المطاف.
• تراجع الدور التشريعي للبرلمان بغرفتيه. عدد من القوانين تكتنفها فراغات مهولة زادت من حدة معاناة المرتفقين. عدد من النصوص التشريعية لم تعد مجالا لترميم مخالفات ومخلفات الماضي والتطلع للمستقبل باليقين المطلوب.
• ضعف الوعي السياسي لدى الشباب، بحيث أصبح البحث عن وسائل الحياة بعيدا عن النضال الذاتي بالعلم والمعرفة والوطنية من خلال النضال الحزبي، ليرتمي إلى هوامش المهانة من خلال البحث عنها داخل الأوساط المجتمعية بكل الوسائل المتاحة بما في ذلك العنف والسرقة والنصب والاحتيال وتخريب الممتلكات العامة.....
• ضعف المؤسسات التمثيلية الترابية وتراجع قدرتها على بلورة البرامج الناجعة وتنفيذها بنزاهة ومردودية عالية. استقلاليتها أصبحت ضعيفة أمام مؤسسات اللاتمركز الإداري بالرغم هزالة الوضع المالي لهذه الأخيرة وافتقار ممثليها لسلطة القرار.
• توتر العلاقة بين مؤسسات الحكامة والمؤسسات الإدارية والتمثيلية بسبب تفشي الفساد والغش في بلورة المشاريع وتنفيذها.
• يروج في أوساط المتتبعين النزهاء تطويل أمد آفة اعتماد منطق تدبير الابتزاز السياسي والإداري وتبادل تهديدات الفضح بشكل متواصل، وبالتالي تسلط ديمومة التواطؤ والصمت والإساءة للطاقات الوطنية النزيهة والكفأة للنيل من حدة جرأتها. كما تحولت آلية استقطاب النخب العارفة بمقابل الصمت والمسايرة إلى وسيلة ناجعة لإضعاف الرأي العام الوطني.
• ظهور مبادرات مدنية جديدة في بعض المدن داخل المملكة المغربية وخارجها تدعوا إلى الاستثمار في مقومات فن العيش لتوطيد معالم المواطنة لدى الأجيال قبل فوات الأوان. وهناك مبادرات موازية أخرى رفعت شعار "الوطن أولا ودائما" طامعة حسب المعلن في قوانينها الأساسية تعبيد الطريق لطاقات هذا الوطن للوصول إلى الفضاءات الرسمية لخدمته.
• ارتفاع نداءات هنا وهناك منددة بجشع الرأسمال الليبرالي منبهة مصادر القرار من خطورة وأد المعرفة والكفاءة والنزاهة داخل المرافق العمومية والخاصة وخدمة الأوساط الاجتماعية المغربية.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك