مغربنا 1-Maghribona 1
بقلم: محمد بلعيش
هناك أحداث يصبح الصّمت حيالها جريمة. وشرّ الخلائق من يدّعون الأخوّة في الرّخاء، ويتفرّجون عليك زمن الشّدائد. لهذا فأنا أغبط إسرائيل على صداقاتها، وأحلافها، وإخوانها على مستوى العالم. تخيّل أن تحرّك الولايات المتّحدة الأمريكيّة أكبر حاملة الطّائرات في العالم من أجل إسرائيل. تخيّل أن ترسل بريطانيا سفينتين حربيّتين، وطائرات استخباراتيّة لحماية إسرائيل. من كان يتوقّع أن يبكي جون كربي على المباشر لخسائر إسرائيل؟ ناهيك عن الدعم المالي لترميم بكرة القبّة الحديديّة، وأطنان من الذّخيرة، وأكثر من هذا وذاك، هو تردد جملة "من حقّ إسرائيل الدّفاع عن نفسها" على مستوى كثير من دول العالم "المتحضّر" و"الدّيمقراطي".
سبعة عقود ونصف فقط، كانت كافيّة ليصبح المحتلّ ضحيّة، وصاحب الأرض جلّاد. ولم يعد سرّا بأنّ الدّماء العربيّة عموما، والفلسطينيّة على وجه الخصوص، لا تساوي أكثر من شسع نعل مستوطن إسرائيلي بالنّسبة للعالم "المتحضّر". ولم يعد سرّا كذلك أنّ "جامعة التّنديد العربيّة" لا ترقى مواقفها حتّى إلى ثمن الحبر الّذي تكتب به بياناتها. ولو وفّر ذلك الورق للمراحيض العموميّة لكان أنفع للمواطن العربي.
ستبوح السّنوات القادمة بما وقع يوم 7 أكتوبر 2023. هل استدرج نتانياهو الضّيف إلى فخّ "مجموعة غزّة"؟ هل تفوّقت المقاومة الفلسطينيّة على الاستخبارات العسكريّة الاسرائيليّة؟ أم أنّها سقطت في شراك عميل مزدوج؟ كل الاحتمالات مطروحة، لكنّ الثّابت هو أنّ إسرائيل حاكت السّيناريو الأمثل لتنفيذ مخطّط التّهجير. فعلى عكس الحروب السّابقة، سارعت إسرائيل إلى نشر قائمة ضحاياها من العسكريّين، وكانت تقوم بتحديث حصيلة الضّحايا على مدار السّاعة، ورفعتها إلى مستويات لم تبلغها في أيّ من حروبها السّابقة. هذا التضخيم الإعلامي، يقابله شحّ في الصّور والفيديوهات الّتي توثّق لعملّيّات تقتيل المدنيّين واغتصابهم وذبحهم. بل غيّاب حتّى جثامينهم، وعائلاتهم. ولهذا حوّلت إسرائيل صورة كلب، إلى جثّة متفحّمة لطفل بواسطة الذّكاء الاصطناعي ومرّرتها لكثير من وسائل الاعلام قبل أن يكتشفوا أنّها مفبركة.
يبدو أنّ كلّ تلك الأرقام، كانت تمهيدا لتهجير الفلسطينيّين من القطاع، والّذين بدأ بعضهم بالفعل في النّزوح جنوبا، وهو ما لم تحسب حسابه المقاومة الفلسطينيّة في غزّة. وإذا وصلوا في الأيّام القادمة إلى معبر رفح، واشتدّ الجوع والعطش والتّقتيل، فإنّ مصر ستفتح المعبر "إنسانيّا"، وهي الّتي حذّرت إسرائيل من عمليّة ضخمة قبل ثلاثة أيّام من ساعة الصّفر. لن تعطي مصر شبرا من أرضها للفلسطينيّين، لكن قد تحتضنهم كما فعلت الأردن ودول أخرى، وتصفّى القضيّة بطريقة أكثر احترافيّة زمن الانتخابات.
ما مرّرته إسرائيل لبعض وسائل الإعلام الدّوليّة، يريد أن يمرّره بعض المثقّفين العرب للمواطن العربي. ظاهر الرّسالة الإنسانيّة، وباطنها حقد إيديولوجي على الإسلام السّيّاسي. وهناك بون شاسع بين الاختلاف الإيديولوجي الّذي يكون فيه الاحتكام لصناديق الاقتراع، وبين الحقد الإيديولوجي الّذي يكون هدفه الرّئيسي هو التّصفيّة سواء يمينا أو يسارا. ويبدو أنّ الطّاهر بنجلون قد وقع في هذا المحظور. أن يقول بأنّ " الحيوانات لم تكن لتفعل ما فعلته حماس"! ويتغاضى عن أكثر من 650 طفل فلسطيني قصفهم المحتلّ بالطّائرات، فهذا حقد إيديولوجي لتصفيّة حسابات سيّاسويّة ليس إلّا.
ألم يشاهد حجم الدّمار والخراب الّذي أحدثته آلة القتل المحتلّة؟ ألم يسمع عن الأسلحة المحرّمة دوليّا والّتي تلقى على القطاع؟ أين يصنّف الطّاهر بنجلون قطع الكهرباء والماء والدّواء والغذاء عن مليونين ونصف فلسطيني محاصرين في سجن كبير اسمه غزّة؟ ألم يسمع ما قاله الأطفال؟ ألم يشاهد الأمّهات الثّكالى؟ ألم يخبره أحد عن تلك العوائل الّتي أبيدت بكاملها وأصبحت خارج السجلّات المدنيّة؟ ما قام به الطّاهر بنجلون تحيّز واضح للاحتلال، ومقاله يتقاطع مع ما يذهب إليه المتطرّفون في إسرائيل، ألا وهو تصفيّة القضيّة الفلسطينيّة جملة وتفصيلا، وتحميل المقاومة الفلسطينيّة مخطّطا كان موجودا قبل الرّبيع العربي.
وإذا كان الطّاهر بنجلون قد عبّر عن رأيه بصراحة، فإن السّواد الأعظم من المثقّفين العرب اليوم يجنحون إلى الصّمت، وهو تواطؤ آخر مع الظّلم. فإذا لم يدافع المثقّف عن القيم المجتمعيّة، وينافح على القضايا الانسانيّة، ويفضح التّدليس والعمي الإيديولوجي، فما حاجة المجتمع لعلمه ومعرفته؟ لماذا يصمت الصّحفيّون والمفكّرون، والكتّاب، والرّسّامون، والأساتذة الجامعيّون، والسّيّاسيّون إلخ عن هذه الإبادة الجماعيّة الّتي يتعرّض لها الفلسطينيّون الآن؟
شخصيّا لا يهمّني أن تكون مقاومة الاحتلال حمراء أو خضراء أو صفراء أو برتقاليّة. ما يهمّني هو أن تحرّر الأرض. وكما أدين قتل المدنيّين من أيّ طائفة كانت، أو التمثيل بالجثث، أو الإساءة للأسرى. فلا أستطيع أن أسلب شعبا حقّه في معركة التّحرير والاستقلال تحت مبرّرات واهيّة. ولا يمكنني بأيّ حال من الأحوال أن أفخر هنا بموحا أوحمو الزّياني، ومحمد عبد الكريم الخطّابي، وعسو أوبسلام، وعبد الله زاكور، وعلّال بن عبد الله، ومحمّد الزرقطوني وغيرهم، وأدين المقاومين في فلسطين مهما اختلفت مشاربهم الثّقافيّة، وانتماءاتهم السّيّاسيّة. لا يمكن أن أشيد هنا بتفجير "مارشي سنطرال" سنة 1953 بالدّار البيضاء وأعتبره عملا بطوليّا، وأدين عمليّة اقتحام غلاف غزّة أو الاقتتال مع "فرقة غزّة" أو الاشتباك مع المسلحين من المستوطنين.
ليس هناك شعب فوق هذه الأرض تحرّر دون أن يدفع ضريبة التحرّر، فلماذا تريدون من الفلسطينيين فعل ذلك؟ كنت وما أزال مع حلّ الدّولتين على حدود 67، كما تبنّاها الفلسطينيّون. ومع ذلك أتساءل مع المعتقل مروان البرغوثي، وبعض القيادات الفتحاويّة: ألم يحن الوقت لوضع "اتفاق أوسلو" في الميزان، والتساؤل عمّا تحقّق للفلسطينيّين بعد ثلاثين عاما من توقيع الاتّفاق؟ أليس الأجدر العودة للمقاومة المسلحة، لتحريك الفعل السّيّاسي؟
قلت غير ما مرّة أنّ ما يجوز للفلسطينيّين يجوز لغيرهم، وأقول الان ما جاز للمقاومين على مستوى العالم في معاركهم التحرّريّة، يجوز للمقاومة الفلسطينيّة الآن. وسأختم بمقتطف من مقال سابق لي بعنوان "من مغربي إلى زهرة المدائن":
إن المغاربة كما كانوا دائما يصطفّون معك في اختياراتك دون إملاءات أو وصايات، فاختاري إن شئت سلاما، وإن شئت حربا، وأن شئت اتفاقا، وإن شئت اقلبي الطاولة على العالم أجمع.
بركان في 15 أكتوبر 2023
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك