أنتلجنسيا المغرب: فهد الباهي/م.إيطاليا
انتظرت طويلاً قبل أن أقول كلمتي في
هذه النازلة التي زلزلت ما تبقى من ثقة المواطن المغربي في مؤسسات الدولة، لأن
الأمر لا يتعلق فقط باختراق "سيبراني"، بل بفضيحة مركبة تفضح هشاشة المنظومة
الإعلامية أولا وقبل كل شيء، وتُظهر كيف تم إفراغ دور الصحافة من جوهره لتحويلها
إلى أداة تسلية وتغليط وراء التفاهة.
سأتوقف بدايةً عند مصطلح
"اللقوة"، وهي كلمة متجذرة في الثقافة الشعبية تُطلق على من فقد القدرة
على النطق أو ارتبك فجأة، وغالباً ما تُقال تهكماً على من كان كثير الكلام ثم صمت
فجأة، والمثل يقول: "هضر مالك جاتك اللقوة"، هذا بالضبط ما أصاب صحافتنا
حين تعلق الأمر بأخطر عملية اختراق عرفها المغرب ومواضيع ساخنة تهم الشعب.
الاختراق السيبراني الأخير كان يمكن
أن يكون لحظة صحوة للصحافة المغربية، لكنه تحوّل إلى مناسبة للصمت المُريب، وموسما
لتبادل التهم وتقديم التبريرات، الصحافة التي كانت تُسهب في أخبار التافهين
والفضائح الفارغة، "ولد الشينوية..طوطو..نزار..طراكس..شيخة مايا..الشواذ إلخ"
ابتلعها الخرس في هذه اللحظة، وجاءتها "اللقوة" حين احتاجها الشعب لتؤدي
دورها الحقيقي في المحاسبة والكشف والمساءلة، كون أصبعها لا زال يتلسق بعسل "القصرية
".
الوضع يعيد إلى الأذهان مثلًا مغربي
يقول: "ضربو لحلقو ينسى لي خلقو"، وهذه حال من استفادوا من كعكة الريع
الإعلامي، يملؤون بطونهم من المال العام ثم يلوذون بالصمت حين يُطرح سؤال النزاهة
والشفافية، وإن تكلموا فلإلهاء الشعب عن القضايا الجوهرية بقاضيا فارغة لا علاقة
لها بمشاكل الشعب الحقيقية .
الأدهى أن هذه الفضيحة لم تكشف فقط
فساد الصحافة، بل فضحت أيضاً تواطؤ الحكومة التي تصرف من جيوب دافعي الضرائب
أجوراً فلكية لهؤلاء "المحظوظين"، دون أي حرج أو احترام لمبدأ تكافؤ
الفرص.
في ظل غياب كامل للوضوح حول اللوائح
والمبالغ، يكاد الأمر يشبه جريمة منظمة.
تخيلوا فقط أن من يُصنفون ضمن
"نخبة" المسؤولون رفيعي المستوى والإعلامين المعروفون بتشويه سمعة
الصحافة، وأخارونغير معروفون نهائيا، يتقاضون ما يفوق 125 مليون سنتيم شهرياً، أي
ما يعادل 32.107 درهم في الدقيقة الواحدة، في حين أن عاملاً بسيطاً في مصنع "كابلاج"
يتقاضى بين 7 و15 درهماً للساعة، ولا حديث عن أجور المدراء بين 40 و50 .
أي عدالة هذه؟
ماذا قدم هؤلاء للوطن حتى يتقاضوا مثل
هذه المبالغ؟
ما هي كفاءاتهم؟
أين تكونوا؟
وأي منجزات تركوا خلفهم؟
لا أحد يجيب.
لأن الجواب الوحيد المتبقي هو أن
الفساد صار قاعدة، والنهب صار مباحًا ما دام يتم من فوق الطاولة.
نحن لا نحسد أحداً على رزقه، لكننا
نرفض أن يُدفع من قوت الشعب، من جيوب الجنود البسطاء، وعمال البناء، والطباخين،
والباعة المتجولين، والطلبة المعوزين، أجور فاحشة لا يستحقها أصحابها إلا في عالم
مقلوب، في المغرب، لا يوجد فقر بالمعنى الحقيقي، فالثروات هائلة، والخيرات متنوعة،
لكن الفقر هو نتاج سرقة موصوفة، ونهب منظم، واختلال فاضح في توزيع الثروة.
كيف يُعقل أن يتقاضى إمام مسجد 1500
درهم، بينما إعلامي يتقاضى 400 آلاف ضعفها دون عطاء حقيقي؟
كيف لحارس أمن يشتغل 12 ساعة يومياً
أن يقبض 2000 درهم فقط؟
هل هذه دولة فيها عدالة اجتماعية؟
أم سوق نخاسة تحكمه الولاءات
والمحاباة؟
من حق المواطن أن يسأل: إلى متى هذا
العبث؟
وإلى متى تستمر هذه "اللقوة"
الإعلامية أمام الفساد المفضوح؟
نعم، لا يوجد فقر في المغرب، بل يوجد
ظلم صارخ، وغضّ بصر ممنهج عن العصابات التي تنهب خيرات البلاد، لقد بلغ السيل
الزبى، والساكت عن الحق أصبح شريكاً في الجريمة، والمواطن البسيط لم يعد يُلدغ من
نفس الجحر، بل يُطعن كل يوم دون أن يصرخ أحد، الحقيقة اليوم أن منظومة كاملة بحاجة
إلى إعادة بناء، من الإعلام إلى السياسة، ومن الاقتصاد إلى العدالة.
الصحافة الحرة لا تُشترى، والشفافية
لا تحتاج إذناً من أحد، إما أن نعيد للمغاربة ثقتهم، أو نكون شهود زور على انهيار
وطن، ونحول أقلامنا إلى فرشات تجميل كفرشات صالونات التجميل والحلاقة "نكافات
ولا كوافورات "، في هذا الزمن، ليس من الفخر أن تصمت، بل من الخزي أن لا تفضح.
ومن لم تصبه "اللقوة"،
فليقل كلمة حق، فقد حان وقت كشف الغطاء، وكسر الصمت، وفضح المرتزقة الذين باعوا
المهنة والضمير بثمن بخس، لجناة يمصون دم الوطن بلا رحمة ولا ضمير .
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك