أنتلجنسيا المغرب: فهد الباهي/م.إيطاليا
العنف لم يعد
حادثًا معزولًا في مغرب اليوم، بل صار ظاهرة مستشرية تتغذى من اختلالات سياسية
واجتماعية واقتصادية وثقافية، وتُطلّ برأسها القبيح كل يوم في شوارعنا ومؤسساتنا،
أمام عدسات الهواتف، في مشاهد تكشف انهيارًا مريعًا للقيم وتآكلاً مخيفًا للثقة
بين المواطن المغربي والدولة.
في زمن صار فيه
"الترند" يصنعه مشهد عنف أو صراخ أو دماء، ظهرت فيديوهات من القنيطرة،
وأكادير، وتمارة، وحتى من قلب فاس العاصمة العلمية وميدنة يونس بن تاشفين، تُظهر
شبابًا في حالات تخدير مرعبة، يتجولون بأسلحة بيضاء ويهددون أمن الناس، ويتشابكون
بالاسلحة البيضاء المتوفرة حاليا مع رجال الامن والدرك الملكي، دون رادع حقيقي،
وكأننا نعيش في بلدين، واحد حقيقي وآخر افتراضي.
بالتزامن مع هذا
الانفلات الواقعة أمام أعيننا والموثقة "بفيديوهات"، يعاني المعلم من
التحقير، يُضرب، يُهان، يُتهم، ويُزج به في دوامات التوظيف الهش والمطالب المعلقة،
في الوقت ذاته، نسمع عن ضابط طُعن في القصر الكبير، وقائد تمارة تلقى صفعة،
وأستاذة في أرفود قُصم رأسها بـ "شاقور"، ومدير مؤسسة خنيفرة انقسم وتكسر
رأسه "يمكن بمقدة" حسب الضربة التي شاهدت عيناي في الصورة المتداولة...
فمن المسؤول؟
تغول العنف ليس
وليد الصدفة، بل نتيجة منظومة تعليمية معطوبة، وأجهزة تنشئة اجتماعية فاشلة،
وبرامج إعلامية تبخس القيم وتعظم الرداءة، وغياب القدوة والمثال، وإفلات الجاني من
العقاب مرارًا وتكرارًا "باك صاحبي ودير مكتب دراسات" .
نحن في حاجة
ماسة إلى تربية تزرع في الطفل أن المصباح العمومي حقه، وأن الكرسي في الحديقة
العمومية مسؤوليته، وأن احترام جلالة القانون ليس خوفًا من الغرامة بل احترامًا
للآخر واجب لا يقبل التنظير، نحتاج إلى معلم يعيد التوازن النفسي لجيل مسحوق بالهشاشة،
يعيش في بيوت ضيقة وأحلام أضيق ومتمنيات عريضة وواسعة قد البر والبحر "طلع
تاكل الكرموس شكون قالك حلم".
حينما نترك
الطفل فريسة للجهل، عاجزًا عن القراءة والكتابة، ثم نطارده لاحقًا بقسوة اجتماعية
وقانونية، فإننا لا نُقصيه فقط من حاضر الوطن، بل نُرهق مستقبل الدولة بكلفة ثقيلة.
فذلك الطفل،
الذي كان من الممكن أن يصبح مواطنًا نافعًا، سيُكلّفنا جميعا لاحقًا مصاريف
الحراسة، والتغذية، والكهرباء، والعلاج داخل سجون باتت تختنق من الاكتظاظ، نخلق
مجرمًا ثم نُحاكمه على الجريمة التي صنعناها بإهمالنا.
الحل ليس في
القضبان ولا في العقاب، بل في نقطة البداية: التعليم، ثم التعليم، ولا شيء غير
التعليم، تعليم حقيقي، عادل، منصف، يفتح الأبواب لا يُغلقها، ويصنع الإنسان قبل أن
يصنع العامل والموظف.
ولأن المعلم هو
من يصنع القاضي، والطبيب، والشرطي، والمحامي، والعامل، والفنان.. فإن أي تصالح مع
الوطن لا يمكن أن يبدأ إلا من المصالحة مع المعلم "صدقوني" .
لا أعني التصالح
العاطفي أو بتقاليدنا وعاداتنا يعني "شي قصرية طعام من شي وزير"، بل
التشريعي، الاجتماعي، والسياسي، نحتاج إلى ميثاق وطني حقيقي يُنهي التلاعب
بالمهنة، ويوحد المساطر ويقلص الفوارق ويعزز الكرامة للمعلم.
كفانا ترقيعًا،
ولنقطع مع التعليم الخصوصي الذي عزز التمييز الطبقي وحوّل المدارس إلى أسواق
موسمية، حيث تباع النقاط وتشترى، نريد تعليمًا عموميًا قويًا، منصفًا، لا يترك
الطفل فقيرًا في الشارع تائها في البحث عن مصير مجهول، كما لا يتيه الغني في وهم
التميز والخوصصة.
وبينما نحن نركض
وراء البرامج واللوائح والمناهج، هناك كارثة موازية تضرب في العمق: المخدرات
الكيماوية التي تنتشر وسط شبابنا بسرعة الضوء.
السؤال ليس من
يستهلك "الفقراء المستعبدون تحت طوائل عدة.."
بل من يستورد و
يوزع..
ومن يحمي هؤلاء الموزعين؟
صراحة ومتأكد،
الدولة القوية بمخابراتها وأجهزتها طال ما أشدنا بهذا، مطالبة اليوم قبل الغد
بإعلان حرب وطنية على هذا السم القاتل، للتوجه نحو نهضة علمية قوية تنجينا
مستقبلا..أما الأعشاب التقليدية كـ"الحشيش والكيف"، فهي جدل آخر، لكن
الأخطر اليوم هو "البولة، الكوكا، الإبر، الموفا..."، وكلها مواد تخترق
الأجساد والعقول وتحوّل الشاب إلى كائن خارج المنطق والزمان.
الجانب
الاجتماعي لا يقل خطورة، حيث المواطن اليوم يئن تحت وطأة الأسعار، النقل، الصحة،
البطالة، التجاهل، والعنف البارد داخل الإدارات، فهل يُعقل أن تظل الحكومات ترفع
شعار "مصلحة المواطن فوق كل اعتبار"، ثم لا تنزل ذلك في الميزانيات
والسياسات والقرارات.
ومن بين ما يزيد
الوضع تعقيدًا لهؤلاء الجانحين وتحليل وضع وأسباب الاحتقان، وثيقة "سجل حسن
السيرة" التي تعيق اندماج السجناء السابقين، وتدفعهم للعودة طوعًا إلى السجن،
لأن المجتمع لا يسامح، والقانون لا يرحم، والإدماج شبه مستحيل بالنسبة لهم وهناك
حالات مختلفة ومتنوعة تستدعي دراسات.
فكيف نقنعهم
بالأمل ونحن نحاصرهم بالأبواب المغلقة؟
في الدول
الأوروبية، لا يُنظر إلى السجل العدلي كعقبة إلا في الحالات القصوى، أما عندنا فكل
من زلّت قدمه، ولو خطأ، يُحكم عليه بالإعدام الاجتماعي مدى الحياة.
نحن أمام أزمة
مركبة: تعليم مريض، أمن متوتر، عدالة مهزوزة، إعلام مفرغ من مضمونه، شباب تائه،
ومجتمع يتخبط، والحل لا يكون إلا بتصالح شامل يبدأ من المعلم، ويمر بالقيم، ويُنهي
هيبة الدولة في مكانها الطبيعي لا في القبضة الحديدية، بلا ظلم ولا محاكمات صورية،
المجتمع اليوم منخرط في كل شيء...
لماذا لا نقول
بصوت واحد مغربي حر، "كفانا تجزيئًا للحلول" .
نريد سياسة
شاملة، جريئة، تمس الجوهر لا القشور، تصالح الإنسان مع الدولة، وتزرع الإيمان
بالوطن، فلا شيء أخطر من مواطن فقد الإيمان... ولا شيء أنبل من معلم يستعيد رسالته
في وطنٍ يستحق الحياة.
بالرغم من كل ما
تُتقنه النخبة السياسية من مشاهد محسوبة ومسرحيات هزلية مكررة، فقد سقط القناع،
وبات الوجه السياسي اليوم غير مقبول لدى الشارع المغربي.
الكل يدرك أن
الخطاب الحكومي مقزز لا يطعم، والشعارات لا تبني مستشفيات، ولا تُعلم أطفالًا، ولا
تحمِي شرطيًا ودركيًا من طعنة غادرة، هذا الانفصام بين المواطن والحكومة يستدعي
تدخلا قويا صارما من الدولة بعدما صنعنا مجتمعًا لم يعد يصدق شيئًا، فانقلب بدوره إلى
ممثل بارع، يُتقن أدوار التظاهر، التعايش، والتصفيق الأجوف.
نحن اليوم لا
نعيش واقعًا صادقًا، بل مسرحًا جماعيًا، كل من فيه يؤدي دوره بعناية... لكن دون
جدوى، مسرحيات لا تفيد، لا تغيّر، لا تطعم، ولا تُسمن من جوع.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك