محمد الشيخ بانن:أستاذ القانون العام والعلوم السياسية شهدت في الآونة الأخيرة أربع دول وازنة في غرب إفريقيا، انقلابات عسكرية متتالية، وذلك في ظرف عامين تقريبا. ما أحدث ضجة في الأوساط السياسية، تحديدا، في هذه الدول، التي يتجاوز عدد سكانها 70 مليون، من ناحية وتربطها حدود مشتركة، من ناحية أخرى. إلا أن الانقلاب الذي حصل في النيجر بتاريخ 26 يوليوز 2023، شكل قلقا غير مسبوق للمعسكر الغربي، ودول المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا (الإيكواس)، والبالغ عددها 15 دولة، باستثناء الدول الأربع التي حصلت فيها انقلابات عسكرية، حيث اعتبرت المجموعة، وإن بشكل غير معلن، ما حدث تهديدا استراتيجيا للمدنيين الحاكمين فيها. لذلك هددت بالتدخل العسكري، إذا لم يتخل المجلس العسكري عن الحكم، لصالح الرئيس المنتخب محمد بازوم.
انقلاب النيجر وتهديد الحكم المدني في غرب افريقيا
تعاني شعوب غرب افريقيا، شأنها شأن جل شعوب عالم الجنوب، من مشاكل اقتصادية وسياسية، ناتجة بالأساس عن التبعية والتدخل الأجنبي المستمرين، من جانب والتنوع العرقي والقبلي والديني المأزوم، من جانب أخر. ما انعكس بشكل سلبي، بخاصة بعد الاستقلال، على التنمية السياسية في هذه البلدان، وشجع العسكر على خوض مغامرات انقلابية، كرست أنظمة حكم فردية ديكتاتورية، ما لبثت، هي الأخرى، أن تشظّت وأُسقطت، وهكذا دواليك، ليستمر مسلسل التناوب على الحكم بين ديموقراطية هشة وشمولية رخوة.
هذا المسار، وإن عرف بروز قادة حاولوا التخلص من التبعية، وبناء اقتصادات وطنية، إلا أن لعنة غياب الاستقرار السياسي، كانت لها الكلمة الفصل، في تقهقر هذه الشعوب وانجرارها إلى الحروب الأهلية، والارتماء، من جديد، في أحضان التدخل الأجنبي والارتهان إلى أجنداته الجيواستراتيجية.
مقابل، مسار الانقلابات الذي وجد ضآلته في كون الجيوش تتسم بنوع من التنظيم، حاول قادة سياسيون بناء ذوات سياسية والسعي إلى تكريس تجارب حكم مدنية، بعد تضحيات جسام، طبعا. وقد نجحوا في ذلك، وفق معايير الديموقراطية الإفريقية الهشة، التي تستند إلى الأبعاد الأولية: العرقية والقبلية والدينية والمناطقية. ذلك أن سياق ما بعد انهيار جدار برلين وموجة حقوق الإنسان وظهور الفعاليات المدنية، التي أعقبت ذلك، كلها، أسهمت في هذه التحولات، وإن كانت هجينة في أغلبها، إلا أنها كرست نوع من الاستقرار السياسي.
لذلك، جاء رد فعل أنظمة الحكم في دول الإيكواس، التي يحكمها مدنيون قويا تجاه انقلاب النيجر بخاصة، فالتساهل مع الأمر، كما حصل مع مالي وغينيا وبوركينا فاسوا، يعني تشجيع العسكريين على الإطاحة بالأنظمة المدنية. خصوصا وأن رد فعل الشعوب التي حصلت فيها انقلابات كان باردا إن لم نقل مساندا للعسكر، في إثر فساد أنظمة الحكم المدنية وعجزها عن بلورة سياسات جامعة.
انقلاب النيجر وتهديد المصالح الغربية
الحديث عن موجة الانقلابات الناشئة في بعض دول غرب افريقيا، هو حديث بالضرورة عن مصير المصالح الغربية، والفرنسية منها تحديدا، التي كانت هذه الدول بمنزلة قاعدتها الخلفية. ذلك أن الدول الأربع التي وقعت فيها الانقلابات في الآونة الأخيرة، كانت مستعمرات فرنسية. وثلاث دول منها هي: مالي وبوركينا فاسو والنيجر، أعلن انقلابيوها بشكل مباشر مناهضتهم لفرنسا أو على الأقل مطالبتهم بتعديل الوضع الاقتصادي القائم منذ زمن طويل لصالحها.
فالنيجر تعد أحد المصدرين الرئيسيين لليورانيوم إلى أوروبا. ففرنسا، المستعمر السابق للبلاد، (بين 1922 و1960)، تستورد نحو 7800 طن في العام، وذلك لتشغيل 56 مفاعلاً في 18 محطة نووية، لتلبية حاجياتها من الطاقة، والتي تغطي 35% من الاحتياجات الفرنسية من هذه المادة، وتساعد محطاتها النووية على توليد 70% من الكهرباء.
إلى جانب ذلك، توجد لفرنسا قاعدة عسكرية في النيجر، بها 1500 جندي، مع معدات عسكرية ضخمة، تمكنها من الحفاظ على نفوذها التاريخي الجيواستراتيجي، من جهة أولى وقتال الجماعات المتطرفة هناك، من جهة ثانية، ومراقبة الهجرة نحو أوروبا من جهة ثالثة. أما الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أسست، هي الأخرى، قاعدة للطائرات المسيرة في وسط الصحراء في مدينة أكاديز في شمال النيجر عام 2014، في إطار عمليات مكافحة إرهاب الجماعات المسلحة في غربي أفريقيا. وقدمت أموالا طائلة لحكومات النيجر من أجل توطيد تواجدها هناك.
ما حصل في النيجر وفي 10 دول في افريقيا قبلها، والتي شهدت بوادر نفوذ روسيا من خلال ظهور مجموعة فاغنر، بالموازاة مع نفوذ الصين الملموس على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، من ناحية وغياب الرئيس المطاح به محمد بازوم عن المؤتمرات التي عقدها الرئيس بوتين بشأن أفريقيا، من ناحية أخرى، كلها دلائل، بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، على تورط الغريمين الروسي والصيني فيما حصل.
المجلس العسكري في النيجر: بين الدعامات والتحديات
لا شك أن الشعوب الإفريقية عانت، ولا تزال، من التبعية للغرب، الذي نهب ثرواتها وأجهض مقدراتها، دون أن يسهم في التنمية الاقتصادية والسياسية. لذلك سئمت هذه الشعوب من كل ما هو غربي، وتحديدا، الفرنسي. والدليل على ما نقول، هو رفض الشعوب الافريقية للثقافة الفرنسية والعمل على إحياء ثقافاتها المحلية ولغاتها؛ من طريق الفن والتواصل اليومي، قبل أن يتجلى ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، في التصويت الأخير على دستور مالي، الذي بموجبه تمت إزاحة الفرنسية. هذا من جانب ومن جانب أخر، فإن المتتبع لهذا الشأن، يقف عند الترحيب، الجدير بالاهتمام، بالتواجد الصيني والروسي. وعندما يسأل المرء عن السر من وراء هذه الحفاوة الناشئة؛ يقال له إنها ” قاعدة رابح رابح“. بمعنى أن هؤلاء يحصلون على المعادن، مثلا، ويسهمون، في المقابل، في بناء المدارس والمستشفيات. كما يقدرون الناس وثقافاتهم ويتميزون بلطفهم وحسن خلقهم، لذلك مرحب بهم. كما أن أنظمة الحكم المدنية، من جانبها، تورطت في إفساد الحياة السياسية، وعجزت عن بلورة سياسات مجالية عادلة. ما قاد إلى أن تصبح القارة الإفريقية في مؤخرة الترتيب وفق مؤشرات التنمية البشرية والاستقرار السياسي واحترام حقوق الإنسان والديموقراطية وقبول التنوع الاثني والثقافي والديني، وما نتج عن ذلك من ارتفاع نسب الفقر والأمية والنزاعات المناطقية الانفصالية، وما تبعه من إرهاب أضحت له حواضنه الاجتماعية، بعدما كان يظهر ويغيب.
مقابل هذه الدعامات، التي تحاول المجموعات العسكرية الانقلابية البناء عليها ومن ثمة جعلها بمثابة مشروعية لحكمها وعناوينه الجديدة؛ التي تحاول أن تتفاعل مع تطلعات الشعب، على المستوى الداخلي، من جهة والاتجاه شرقا، على المستوى الدولي، من جهة أخرى. فإن هناك تحديات جمة، لا بد من أخذها بعين الاعتبار؛ منها التعدد العرقي والقبلي والديني، الذي يتفاعل مع هذه التحولات رفضا وقبولا، بناء على مزاجه أولا ثم مصالحه ثانيا، من ناحية وفقدان الانقلابيين لموجه إيديولوجي وبرنامج سياسي وقبول من طرف مكونات الحياة السياسية من خارج الجيش وخبرات في إدارة الحكم، من ناحية أخرى. كل هذا يجعل الرهانات الانقلابية تجزيئية ومرحلية وغير جامعة واستراتيجية. خصوصا عندما أسقطت أول رئيس “عربي” منتخب ديموقراطيا، لم يمض على انتخابه وقت كافي يبرر مساءلته، مما يوحي بأن الدافع داخلي وعرقي وقبلي أساسا.
النيجر وسيناريوهات الحل
يعرف الخط الممتد من مالي إلى السودان قلاقل وحروب أهلية مستعيرة، من ناحية وجماعات إرهابية وانفصالية، لها أكثر من موطئ قدم، في دول عدة، من ناحية أخرى. هذا الواقع الناشئ والذي يتمدد بفعل عوامل داخلية، نعدها محددة وعوامل خارجية نعتبرها مساعدة، جعل من هذه المنطقة الجغرافية دائرة ملتهبة، طالت تداعياتها دول الجوار، بل تجاوزت ذلك، من طريق قوافل الهجرة غير الشرعية، إلى دول شمال إفريقيا ومن ثمة دول الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط. وبالتالي فالمحصلة المنطقية تكمن في الحد من هذا الواقع والسعي بشكل حثيث إلى تحجيمه.
في هذا السياق جاء انذار مجموعة الإيكواس، الذي انتهت مهلته يوم أمس، والتي قد تمدد حتى الخميس المقبل، والقاضي بضرورة إعادة الحكم إلى الرئيس محمد بازوم المنتخب ديموقراطيا، وإلا فإن المجموعة ستتدخل عسكريا لتحقيق ذلك. وطبعا يمكنها القيام بتدخل عسكري، بخاصة وأنها مدعومة من دول نافذة في المنطقة، على رأسها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية اللتان تتوفران على قواعد عسكرية في النيجر. ومن المحتمل أن يتم هذا التدخل جوا لشل القوات على الأرض من جانب ودفع الجيش، الذي تردد في البداية، إلى الانقلاب على المجلس العسكري، الذي يقوده عبد الرحمن تشياني، من جانب أخر. وإذا أخفق التدخل الجوي قد يتم تدخل بري من الحدود مع نيجيريا، التي يحتل جيشها المرتبة الرابعة على مستوى ترتيب الجيوش الإفريقية، وتعداد قواته يصل إلى 215 ألف بينهم 135 ألف قوات عاملة والباقي قوات احتياط، وتعرف استقرار سياسي والمدعومة بشكل واضح من السنغال وغانا. علما أن عدد جنود جيش النيجر لا يتجاوز 13 ألف بينهم 10 آلاف قوات عاملة والباقي قوات شبه عسكرية.
لكن هذا السيناريو، الذي بدأت تظهر مؤشراته على الأرض من خلال الاصطفاف القبلي هنا وهناك، تعارضه بعض الدول الكبرى مثل روسيا والصين وكذا بعض دول الجوار، مثل الجزائر، لكونه قد يقود إلى صراع طويل الأمد، ينتج منه نزوح كبير، من جهة ويسهم في انتعاش المجموعات الإرهابية النشيطة في خط التماس بين نيجيريا والنيجر، والنيجر ومالي وبوركينا فاسو، ويدفع بتوسعها من جهة أخرى.
السيناريو الثاني هو السعي إلى الوصول إلى صفقة سياسية، تضمن جزء من مصالح الدول الغربية وتقود إلى مرحلة انتقالية، تأتي بعدها انتخابات سابقة لأوانها. هذا السيناريو قد يضمن نوع من الاستقرار لكنه في المقابل، سيُظهر عجز دول أيكواس في الحفاظ على أنظمة الحكم المدنية القائمة في دولها ويشجع العسكر على خوض انقلابات في دول أخرى من أعضائها.
وعليه، فإن السيناريوهات المطروحة تبقى عبارة عن حلول مأزومة، لكونها لا تلبي الطموحات الوطنية الجامعة. وبالتالي، لا بد من الرهان على الحلول الدبلوماسية من جانب والدخول في تفاهمات بين كل الذوات السياسية الشريكة في الوطن، من جانب أخر وذلك لبلوغ صيغة مقبولة تقود إلى تأسيس نظام حكم يعبر عن كل المكونات، من خلال بلورة سياسات مجالية عادلة، على أساس القرار الوطني الجامع والمستقل.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك