... رأي / الجمعة 01 نوفمبر 2024 12:29:03 / لا توجد تعليقات:
تعدّ الشهور القمرية شهورا إسلامية دينية، بها نمارس شعائرنا التعبدية كالصيام والإفطار وتحديد الحول في الزكاة والوقوف بعرفة وسائر مناسك الحج، وبها نثبت أيام عيدنا كالفطر والأضحى وهي من شعائر الإسلام، وبها نثبت عدد النساء وهي من حدود الله، وبها تُحسب الكفارات وهي من صميم الدين، لهذه الاعتبارات كان علماؤنا الأقدمون يتشددون في إثبات رؤية الهلال ويضعون لها شروطا وقيودا وضوابط، ولهذا أيضا تمسكوا بالرؤية البصرية في الغالب لأن الحسابات الفلكية لم تكن في عصرهم بالدقة التي عليها الآن، وإذا غم عليهم وامتنعت الرؤية البصرية لجأوا إلى إتمام العدة ثلاثين كما هو نص الحديث.
أما في عصرنا، فقد تطور علم الفلك وصارت حساباته من الدقة بمكان، ومع ذلك اختلف المسلمون في استعماله، فمنهم من يستعمله ويعتبره الوسيلة الحصرية، وهم تركيا ومن يدور في فلكها كدول البلقان، ومنهم من يرفضه ويتمسك بالرؤية البصرية أيا كان صاحبها مثل السعودية ومن يقلدها، ومنهم من يعتمد الرؤية البصرية بضوابط تنظيمية كالمغرب وسلطنة عمان، وكان عندنا توجه رابع واندثر، وهو توجه ليبيا القذافي.
فكيف نوفق بين الآراء لتوحيد عموم الأمة في هذه المسألة الدينية؟
لا يمكن إلغاء الرؤية البصرية من مقاربتنا، كما لا يمكن إلغاء الحساب الفلكي أيضا، وقديما قال علماؤنا: الجمع بين الأدلة أولى من الترجيح، لأن الجمع فيه إعمال الأدلة كلها، أما الترجيح ففيه إعمال دليل وإهمال آخر.
بناء على هذه المقاربة، يمكن اعتماد الحساب الفلكي من زاوية واحدة، وهي إمكانية الرؤية واستحالتها، فإذا قال الحساب الفلكي باستحالة الرؤية في منطقة ما، فإنه لا يُسمح للفرق المختصة أن تراقب الهلال أصلا، كما لا نقبل شهادة العوام إن قالوا بأنهم رأوه، لأن الحساب الفلكي قال بالاستحالة، والاستحالة الحسابية قطعية، والرؤية البصرية ليست في مستواه القطعي اليقيني، لذا لا ترقى إلى معارضته بله الرجحان عليه.
أما إذا قرر الحساب الفلكي إمكانية الرؤية البصرية، فإن فرق الرصد والهيآت المختصة تباشر عملها في المراقبة، فإن ثبت لديها فذاك، وإن لم يثبت أتممنا العدة ثلاثين. ووجب في هذا السياق منع العوام ومن لا خبرة له من المراقبة، وبالتبع، فإنه لا يجوز قبول شهادة أيٍّ كان من الناس، لما وقع من تغير الأحوال مقارنة مع المتقدمين، لما في الجو من أقمار اصطناعية وما يخالط الفضاء من تلوث.
قد يقول قائل: إذا كان الحساب الفلكي دقيقا، فلماذا لا نعتمده وحده ونلغي الرؤية البصرية إلغاء تاما؟
قلنا: إن الحساب الفلكي يعطينا الجواب حول إمكانية الرؤية أو الاستحالة، والإمكانية تعني أنه قد يُرى وقد لا يرى، بخلاف الاستحالة، فإنها قطعيةٌ في النفي.
إضافة إلى هذا، فإن الاعتماد الحصري على الحساب سيفرض علينا إلغاء جزء من الحديث إلغاء تاما، وهو عبارة: "إن غم عليكم ..."، وقلنا سابقا بأن الإعمال أولى من الإهمال، والجمع أولى من الترجيح.
ومن أمثلة ذلك، فإن غرة شعبان كانت هذه السنة يوم الثلاثاء في أغلب البلدان الإسلامية، مع العلم أن الحساب الفلكي قال باستحالة الرؤية البصرية في جل العالم الإسلامي، وأنها عسيرة التحقق في جزء يسير منه، وأنه لا تتحقق إلا في أقصى غرب العالم، أي منطقة البحر الموجودة غرب أمريكا اللاتينية. لذا كان إثبات شهر شعبان خطأ محضا في غالب دول الإسلام. باستثناء الدول التي قررت غرة الشهر يوم الأربعاء، فإن الرؤية كانت عندها متوافقة مع الحساب ولا تعارض بينهما.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك