مغربنا 1 المغرب
تسود اليوم داخل حزب العدالة والتنمية رغبة كبيرة في إيجاد صيغ ملائمة للحوار والتداول والتفاكر والتشاور ومدارسة قضايا الحزب والسياسة وموقع الحزب من ذلك وأدواره حاضرا ومستقبلا. وتخترق هذه الرغبة الحزب كله أفقيا وعموديا، مؤسسات وأعضاء، مسؤولين حاليين وسابقين، بدءا من الأمانة العامة الحالية والسابقة ومرورا بكافة المستويات والهيئات والأفراد مركزيا ومجاليا.
والمفارقة أن هذه الرغبة الكبيرة والواسعة لا تجد لها أثرا واقعيا ملموسا داخل الحزب، فإلى حدود اليوم لا وجود لأي إرادة أو مؤشر أو قرار يبشر بقرب فتح ورش النقاش العمومي الحزبي المُتَخَفِّفِ من إكراهات العمل التنظيمي. وقد ولد هذا الأمر إحساسا، يزداد تمددا وانتشارا، بوجود "حالة انسداد" داخل الحزب في ظل ضمور واضح في مدارسة قضايا الحزب وقضايا السياسة، وضعف كبير في صبيب الحوار والنقاش داخل مختلف المؤسسات الحزبية وانحسار في عدد اللقاءات التأطيرية. وفي المقابل هناك ملأ للفضاءات الحزبية "بالخطابة" و"التوجيه" ودعوة أعضاء الحزب وهيئاته إلى الانشغال بالعمل، من دون أي تحديد جماعي ومؤسساتي لمضامين أو أطر أو آفاقٍ تُرَشِّدُ الوِجهة وتُدَقِّقُ البوصلة.
وحين البحث عن مبررات "رفض الحوار" والتعبير عن عدم جدوائيته، نجد خطابا مُبَخِّسا ورافضا لأي مبادرة في هذا الاتجاه باعتبار ذلك عودة إلى الوراء وإضاعة للوقت في أمور لا خير يرجى منها. ومن هذا المنطلق يقال لنا ما الفائدة من اجتماعنا في فضاءات للحوار إذا كان الغرض من ذلك هو أن يدافع كل واحد منا عن اجتهاداته ويروي لنا مروياته؟ فلن نخرج من كل هذا إلا بتعميق الجراح، ومزيد من الخلافات وقطع العلاقات. وعليه فليس من الحكمة والمصلحة إضاعة الوقت فيما لا ينفع، والأجدى من الدخول في هذه المتاهات هو العمل في الميدان، ومتابعة استقامة الإخوان، وانتظار الفرص المواتية لخوض المعارك السياسية للدفاع عن الإسلام واسترجاع قوة البنيان. حينها سيلتحق الجميع بالقطار وسنخوض الغمار، وسنكون الأقوى في الامتحان، ونشارك في الانتخابات المقبلة، ونحتل المراتب المتقدمة، ولما لا تكون المرتبة الثانية لنا عنوان، وقد نتصدر المشهد "الفارغ" ونعود للرئاسة "إذا أراد الله ذلك"، فهو الواهب المنان. فهل مع هذا المسار نحن في حاجة إلى حوار؟
وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع هذه "الأطروحة"، فإن هذه المبررات تحتاج إلى بعض التفاعل والتدقيق والتعليق.
1- دعوى العودة إلى الوراء: في حقيقة الأمر منذ أزيد من سنة ونحن نعيش الماضي ونعود باستمرار إلى الوراء، رواية للسرديات والأزليات والفخريات، وأغلب ما تنتجه قيادة الحزب هو التذكير بما فات، دون أي تدقيق في الروايات. ولو أن حضور "الوراء" كان بالقدر اللازم دون إكثار في نسق رؤية واضحة للمستقبل لكان لدعوة عدم العودة غلى الوراء معنى ودور. لكن للأسف عكس ذلك هو الحاصل، فكل الخطب هي ركون إلى ماضي الزمان، وحتى ما تم تنظيمه -على قلته ونذرته- من ندوات صحفية وأيام دراسية إنما كان رواية للماضي ومعاركه وفتوحاته.
ثم كيف يستقيم عقلا عدم العودة إلى الوراء بعدما أُوغِلَ فيه بشدة من غير رفق، برواية الغريب من الحديث والاستفراد بطرقه دون بيانها والإخبار بها، فلا نعلم ما هي، هل هي سماع أم عرض أم إجازة أم مناولة أم مكاتبة أم إعلام أم وصية أم وِجَادَةٌ؟ أم هي كل هذه الطرق مجتمعة؟ إن قواعد إنصاف الرواة عدلا وتجريحا، وتمحيص ونقد المتون والمرويات قبولا أو رفضا، تقتضي تدقيقا وتمحيصا وحوارا صادقا نخرج منه "بالرواية" المقبولة والمنصفة والمفيدة للمستقبل. وبالمناسبة فإن من المرجعية الالتزام بهذه القواعد التي بفضلها تم ضبط وتدقيق ميراث النبوة، ذلك أن المرجعية ليست فقط خطبا تلقى ودروسا تذاع. كما أن ميزان العدل والإنصاف يقتضي ممن أباح لنفسه أن يروي "الحديث" بطرقه ومروياته، أن يفسح لباقي "المحدثين" المجال للقيام بما قام به، فالله يأمر بالعدل، "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"، قال أهل العلم: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام.
2- دعوى نكأ الجراح وتعميق الخلافات ومزيد من قطع العلاقات: الحقيقة أن منطق الإنصاف والمصالحة يقتضي الحديث الصريح والشافي، فلا يستقيم عقلا أن يغلق باب الحوار بدعوى الخوف من تعميق الجراح. فهل يستساغ طِبًّا، أن يقوم طبيب بعلاج مريض "سقط من الطابق 17" - مع استحالة بقائه على قيد الحياة - بلفه في دثار وإزار وإعادته إلى أهله. أليس من نتيجة ذلك تعفن الجسد وهلاك المريض؟ أليس من واجب الطبيب إعمال مشرطه ومخيطه وأدويته المختلفة لإنقاذ مثل هذا المريض؟ ألن يكون خائنا لقسمه إن لم يستفرغ جهده في معالجة الجراح وإعمال كل ما يقتضيه الطب للتسريع بذلك؟ وعليه فلا يصح أن تواجه وضعية الحزب والخلافات داخله، وتحليل أوضاعه ومحيطه واستشراف مستقبله دون أن يصاحب ذلك وضوح وقوة في تشخيص علله وأسقامه. فمن يفشل في التشخيص الدقيق بوضوح وقوة قد يموت نتيجة تناوله الدواء الخطأ.
وبالمناسبة ليس الغرض من إشاعة الحوار والنقاش داخل الحزب هو معالجة الجراح كيفما اتفق، ومن ذلك مصالحة القيادات وعودة المياه إلى سابق مجاريها، على صعوبة ذلك. وعلى كل حال فحتى لو افترضنا أن كل ذلك حصل اليوم، فإن هذا لا يعني بتاتا أن الحزب سينطلق سالما معافى واثق الخطى، ذلك أن الإشكالات التصورية والمنهجية والسياسية التي تواجه الحزب اليوم هي أكبر وأعمق من مجرد تصالح وتسامح وعناق على أهمية هذا إن حصل.
3- عن إضاعة الوقت فيما ليس تحته عمل، وأن الأجدى من الدخول في المتاهات هو العمل في الميدان: الحقيقة ألا أثر بدون نظر، ولا عمل بدون علم. وإذا كان الغرض اليوم من دعوى عدم إضاعة الوقت هو الإعداد للانتخابات المقبلة، والاستعداد للعودة للحكومة أو لرئاستها - على غرابة هذه الأمنيات في ظل ما يعيشه الحزب من أزمات - وكأن شيئا لم يقع، فإن هذا الأمر يدعو إلى التعجب والاستغراب. وحتى لو افترضنا جدلا أن واجب الوقت هو هذه الاستعدادات، فمما لا شك فيه أن الحزب في حاجة ماسة إلى إمضاء ''بعض الوقت'' في نقاش حزبي يفضي إلى إعمال المراجعات الاستراتيجية اللازمة، والتي ذكرنا بها مرارا وتكرارا.
فماذا نحن فاعلون إزاء نهاية دورة إصلاحية كاملة، ومعها نهاية جيل من الرؤى والمقاربات والسياسات والقيادات؟ هل نمتلك تقييما واستشرافا استراتيجيا؟ هل لنا أجوبة عن أسئلة الجدوى والغايات والإمكانات والوسائل؟ هل نملك تقييما لكسب ومستقبل حزب سياسي ذي مرجعية إسلامية في مغرب الغد؟ هل سنقارب هذه الأسئلة بالخطابة المتَفَلِّتَةِ من عقال الشورى المستندة إلى التفاكر والتحاور وتقليب النظر؟
ثم ماذا عن أسئلة المذهبية والأطر الفكرية المرجعية؟ ما معنى أن تكون اليوم حزبا سياسيا؟ وما معنى أن تكون اليوم حزبا سياسيا بمرجعية إسلامية؟ وما معنى أن تكون لك اليوم خلفية مذهبية؟ وهل السياسة في الوطن تحتاج إلى "إيديولوجيا"؟ ومعنى المرجعية الإسلامية؟ هل يعقل أن يعيش حزب بورقة مذهبية تعود إلى ما يناهز عشرين (20) سنة مضت؟ هل توقف عقل الحزب وعجز مثقفوه؟ هل يمكن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل بقصف ذهني نبثه آناء الليل وأطراف النهار؟
وماذا عن إشكالية نظرية العمل وأسس ومفردات منهج الإصلاح كما تم نحتها خلال عقود مضت؟ هل لا زالت صالحة ولها معنى أو دور؟ هل للمشاركة السياسة أثر أم أن المستقبل هو للنضال في إطار الثوابت الوطنية من خارج المؤسسات؟ هل يجتمع الإصلاح كما رجوناه مع حقيقة السياسة و''وضعية'' السلطة؟ هل الرهان على المجتمع أنفع أم أن الدولة والسلطان أقوم وأصلح؟ هل مفردات المنهج الإصلاحي التي نحتت في زمن مضى لا زال لها دور وراهنية؟ هل ما زال للتدرج معنى؟ هل الإصلاح أنفع بالتراكم أم بالقطائع؟ هل التعاون على الخير مع الغير له معنى سياسي؟ هل المشاركة تصلح في السياسة أم المغالبة هي الأصل فيها؟ هل التعامل مع العمل السياسي بأدوات وأفكار ومنهج الإصلاح الدعوي يستقيم؟ هل المراهنة على "الخيرية" في السياسة سذاجة؟ ذلك أن الحكم هو أول عروة نقضت ومن يومها وهو فاسق عن الدين ومتحرر من عقاله. ما موقع هذه المفردات اليوم في نظرية العمل للمستقبل؟ وما هو حجمها ونفعها؟ ما هي كمياؤها النافعة؟ وما هي جرعاتها المداوية لأسقام السياسة وهموم الوطن؟ فهل سنجدد نظرية العمل بلغو الخطاب؟ هل سنعيد تقييم وترتيب مفردات المنهج الإصلاحي باستظهار آي الكتاب؟
ثم ما هي الأطروحة الخاصة بالمرحلة؟ هل نحن في نضال ديمقراطي أم لا زلنا نسعى في شراكة من أجل الديموقراطية؟ وهل الإشكالية اليوم هي في ديموقراطية تعاني من انتقال طال أمده أم أننا في هشاشة تنموية ومجتمعية تنتج لنا هشاشة سياسية وحزبية وديمقراطية؟ إن آخر أطروحة معتمدة ومتوافق حولها يعود عمرها إلى عشر سنوات مضت وانتهت، فهل يستقيم عقلا أن نستمر في العمل والحركة والنضال بدون عنوان للمرحلة متوافق حوله بعد تداول في الرأي وتمحيص للقول؟ وهل يستقيم عقلا أن يضع الحزب لنفسه أطروحة للمرحلة دون تقييم لما مضى؟ وهل يمكن تقييم ما فات دون الاتفاق على حد أدنى من القراءة الجماعية والمؤسساتية للكسب حَسَنِهِ وَسَيِّئِهِ؟ أم أننا سنجد لأنفسنا طريقا سالكا سالما من خلال إسلام القياد وإخلاص الإِتِّبَاع؟
ثم هل أساليب وطرق الاشتغال التي نعتمدها مسلمة لا شية فيها؟ ألا نحتاج إلى حوار وتشاور لتقييمها وتجديدها؟ أم أننا سنستمر في تدبير هيئاتنا ومؤسساتنا واجتماعاتنا من خلال القذ والتقاذف الذهنيين؟ هل سنستمر في العمل من خلال هيئات تخلط بين مستويات النظر والعمل، وفي اجتماعاتها تتداول مستويات العمل والمدراسة والتحليل والتنفيذ والتقييم تداخلا يخل بالفصل بين المهام وتعاونها وحسن أدائها؟ أم أننا سندبر حزبا للمستقبل بأدوات القرن الماضي؟
هذه خمس قضايا كبيرة تحتاج إلى حوار هادئ ونقاش عميق ومراجعات شاملة، وهي قضايا لن تسعفنا فيها إملاءات الخطابة ولا جعجعة الكلام، كما يتبين ذلك من أمثلة الأسئلة التي ذكرت آنفا على سبيل المثال لا الحصر. ولا أعتقد أن إنفاق الأوقات في حوار يقلب النظر في مثل هذه الإشكالات هو مضيعة للجهد وانشغال بما ليس تحته عمل.
وصفوة القول، لو التقت كل القيادات اليوم قبل الغد، وتصافت وتصالحت وتعانقت، وزالت الأدران على القلوب، وصفت الخواطر وعادت أيام المأثورات إلى جميل عهدها، على صعوبة كل هذا، ولو اجتمعنا على قلب رجل واحد، وهو أمر عسير لكنه غير مستحيل، ووقفنا صفا مرصوصا، فإن ذلك كله لن يكون بديلا عن التحاور والتشاور والتفاكر، فلا يمكن للعواطف أن تسدد الرأي وتمنع التيه، كما لا يمكن لأحلام اليقظة ورؤى المنام أن تدفع وترفع حقائق السياسة وسنن العمران.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك