مغربنا 1 المغرب
ذات صباح بارد، وفي لحظة الإفطار على شرفة الفيلا المطلة على البحر، أخبر السيد قطمير أولاده أن يده اليمنى “تأكله”.
حك كفه وتساءل:
– هل سأعطي النقود أم سآخذها؟
تبادل الأبناء النظرات وقال أحدهم:
– طبعا ستأخذ يا بابا. أنت تعودت أن تأخذ الهدايا دائما.
حك الرجل كفه ثانية وثالثة، مع كل حك يتزايد الألم كأن نملا يتسكع تحت الجلد، والغريب أن الألم الليلي أشر من الألم النهاري، لذلك قصد المستشفى لفحص سبب الألم.
بعد جولات ماراثونية بين عشرات المستشفيات والمصحات الخصوصية الراقية، التي نادرا ما يموت مرضاها، لم يتمكن الأطباء لا من معالجة المريض ولا من تحديد اسم المرض. أقصى ما فعلوه هو حشو ملف طبي ضخم بنتائج عشرات التحاليل المِخبرية ومئات الصور الإشعاعية، مع وصف مفصّل للأعراض الخارجية للمرض الجديد الذي تتألم فيه الكف دون أن تصاب بجفاف أو طفح أو… وفي ختام التقرير سجل الأطباء على غلاف الملف الأحمر بخط بارز:
“مرض جلدي غريب، غير معد لحد الآن”.
وقد تحملتْ نفس الجهة المعلومة تكاليف العلاج بمصحات الرباط والدار البيضاء وباريس ونيويورك، بل تحمّلت حتى تكاليف سفر ونفقة المريض المتميز، غير أن النتائج لم تكن أفضل حتى في عاصمة العالم، إذ أن الملاحظة الوحيدة التي أضافها أطباء العَم سام ـ وقد سجلت بالأزرق تحت العنوان الأحمرـ وتقول:
“هذا مرض محلي”.
وقد حذف ضابط الجمارك الذهنية هذه الملاحظة الاستشراقية فلم تعبر الحدود الوطنية.
ظهرت تلك الأعراض على السيد قطمير بعد أن وضعته الجهة النافذة المُشغلة والمُنفقة على الرّف، كان قطمير مدير شركة مجهولة المالك، شركة تجهيز مكاتب وكان قياديا حزبيا، كان يبيع المكاتب والكراسي الفاخرة… كان واجهة المشروع وكان يركز على المتاجرة في المنقولات لأنه تصعب مراقبتها.
فقد الرجل الحاذق منصبه بعد أن أخذ جرعة تصفيق زائدة مفاجئة غير مبرمجة، تعرضت كفاه طويلا لأشعة التصفيق لأنه كان يصفق بشدة حين يكون البوفيه كبيرا عامرا… وبعد أن أُقيل من منصبه لسبب غامض اكتأب وصارت بطنه متدلية وأظافره طويلة… في تفسير تغيراته البيولوجية قيل له إن تكرار التصفيق أضعف مناعته غير المكتسبة.
في تلك الليلة التي فقد فيها منصبه، استيقظ بعد منتصف الليل على ألم غريب، منذ ذلك الحين وهو يتردد على مستشفيات الأمراض الجلدية… في انتظار العلاج كان يسهر بسبب الألم، يفتح عينيه في الظلام ويصفر ليطمئن نفسه…
منذ ذلك الحين وهو يرى كوابيس ملونة بالأحمر، يرى أصابع كفه اليمنى مقطوعة تقطر دما على كف يده اليسرى بينما أصابعه تتطاير… وقد دفعه ذلك ـذات ليلةـ ليحرق أكثر من ألف صورة شخصية ورسمية لأنشطة تلك الجهة النافذة، صُور تبرز وجه المريض مستبشرا تحت كل منصّة، جالسا وواقفا ومنحنيا يصفق بحرارة حين يسمع الأجوبة… كان الجواب هو المثير والتصفيق هو الاستجابة… التهمت النار الذكريات الورقية، لكن ما جرى مازال في الذاكرة وينبعث من جوف الماضي.
في طفولته، كان قطمير يكره الأسئلة. عندما كان تلميذا، كان يكتب الأسئلة باللون الأسود في دفتره، عندما كبُر صار عضوا دائما في “لجنة تحري هلال شوال” التي تشتغل ساعة واحدة في العام وتقدم جوابا واحدا هو “فأكدوا جميعا ثبوت رؤيته”.
خارج ساعة العمل تلك، كان السيد قطمير متفرغا، كان يعشق التصفيق لرجال المرحلة اللامعين، كانت تنعشه موجات التصفيق حين تنطلق من كفيه، كان مرنا يتصرف كسلعة في السوق وكان يكسب فائض القيمة دائما، كان رجلا عمليا يكن احتراما شديدا للأشخاص الذين مرنوا أنفسهم على شراء حقوقهم دون أن تصدر عنهم ابتسامة صفراء.
أصل الحكاية حسب الأطباء:
“تكون الكفان في حالة سليمة وفجأة يشعر المريض بدبيب نمل فيهما… ثم يبدأ الجلد في التقشر والتآكل إلى أن تظهر العروق والدم القاني المتخثر المائل إلى الزرقة، ثم تتمزق العضلات وتتقطع العروق فتندلع رائحة كريهة ويتآكل لحم الكف بينما المريض ينظر لما يجري في كفيه فيعوي…”.
عندما تبقى العظام عارية يتجدد نمو لحم الكف قبل أن يبدأ في التآكل ثانية وتظهر العروق والدم القاني… ويتجدد الألم والعواء… لذا وبعد العودة من نيويورك، زار المريض السيد قطمير زوايا وأضرحة الأولياء الأموات المنتمين للجهة المانحة التي تنفق عليه، وقد ذبح ناقة وثورا وعنزة ودجاجة سوداء لجلب البركة، إلا أن “الشفاء تعذر”.
لكن يبدو أن التصفيق لا علاج عضوي له، لأن المرض ذو طبيعة عضوية بحتة لا روحانية، “تكون الكفان في حالة عادية وفجأة يشعر المريض بدبيب نمل فيهما… ثم يبدأ الجلد في التآكل إلى أن تظهر العروق والدم القاني المتخثر المائل إلى الزرقة، ثم تتمزق العضلات وتتقطع العروق فتندلع رائحة كريهة ويتآكل لحم الكف بينما المريض بنظر ويعوي… ويتشوه وجهه وتجحظ عيناه من كثرة الغمز في كل الجهات…
جلد أحمر يتآكل، مرض جلدي لكن ليس إكزيما، لا يسبب المرض الوفاة المبكرة لكن ألمه ورائحته مروعة، عندما تبقى العظام عارية يتجدد نمو اللحم فجأة، تمر أيام ثم يتجدد دبيب النمل في الكفين… ويتجدد الألم…
لتحمل الألم بعينين مفتوحتين كَحّل السيد قطمير عينيه بالكحل الحار لكي لا ينام…
لكن مع الزمن تعب قطمير. وقد عاف العلاج العصري الروحي، فقصد حلاقا حجاما شعبيا ليفصد وريده ليخلصه من دم النفاق الذي يحتوي على كريات التصفيق… اندهش الحلاق الذي يمارس الحجامة يوميا منذ الاستقلال من حالة السيد قطمير، وشرح له الحجام الخبير أنه “رجل صافق الكف” أوصاه أن يفصد بقطع عرق التصفيق.
في أول محاولة لتتبع مسار العرق اتضح أنه عرق حيوي يمتد من القلب مرورا بالدماغ حتى الكف المجرمة.
وقد بلغت هذه المعلومة الحيوية الصحف الصفراء التي مجدت فضائل السيد قطمير فنشرتها، وهو ما أوجع الرجل الذي تعود رؤية وجهه الباسم على صفحات الجرائد… ومع الزمن صار قطمير مسخرة حين طالبت تلك الصحف المُصفقة باختراع لقاح لبكتريا التصفيق لحماية الأجيال الصاعدة من العدوى.
حزن السيد قطمير كثيرا بسبب انتشار حكايته، مع مرور الزمن اكتشف أنه كلما تحدثت عنه الصحف إلا وقل ألم كفيه، وقبل شفائه التام صار الرجل الجبان سعيدا بانتشار حكايته لأن سرد الحكايات سلوك شجاع للتعلم من الأخطاء.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك