فيلم "العبد" .. الإنسان وسؤال الحرية

فيلم "العبد" .. الإنسان وسؤال الحرية
... رأي / الجمعة 01 نوفمبر 2024 12:29:03 / لا توجد تعليقات:

مغربنا 1 المغرب

“لا أرى خيرا في تعدد الأسياد” عوليس الإلياذة .. هوميروس

قال النمر: “لن أكون عبدا لأحد”. قال المروض: “أنت مرغم على طاعتي، لأني أنا الذي أملك الطعام”. زكريا تامر، النمور في اليوم العاشر

يتطرق فيلم “العبد” الذي يعد ثالث الأفلام المطولة التي أخرجها عبد الاله الجوهري إلى موضوع قديم جديد، هو موضوع العبودية، باعتبارها ممارسة كانت شائعة في العصور الغابرة، ولا تزال موجودة تحت صور وأشكال وأقنعة حديثة.

يفتتح الفيلم بمشهد قطار يصل إلى محطة صغيرة تدل كل العلامات على أنها تنتمي إلى الهامش المنسي، ينزل فيها شاب في العقد الثالث اسمه إبراهيم (سعد موفق) تظهر عليه علامات التعب الجسدي والنفسي، ثم تنتقل الكاميرا الى مشهد عمال يعرضون أنفسهم من أجل العمل في إحدى الوحدات الصناعية التي يملكها بورجوازي كبير اسمه “سي بن عمر” (إسماعيل أبو القناطر). لنتعرف بعد ذلك على قصة ابراهيم الذي قرر في لحظة ما من حياته أن يعرض نفسه للبيع في إحدى ساحات القرية، غير أن هذا السلوك لقي استهجانا من طرف الناس الذين لم يتعودوا على هذه الممارسة التي تستقبحها الطباع السليمة، لكن الشاب لم ييأس، وجدّد محاولته بالرغبة في عرض نفسه على أغنى رجل في المنطقة برمتها وهو “سي بن عمر” عن طريق الشاب الآخر عادل (عمر لطفي) الذي يشتغل إطارا في معمله. ومع الأيام يصل خبر الشاب ابراهيم الى السي بن عمر فيقرر تشغيله في منزله الفخم حيث يتعرف على ابنته الوحيدة ويقع في غرامها.

طفولة صعبة في بيت مليء بالكتب:

من أجل استجلاء الغموض الذي يطبع شخصية ابراهيم باعتبارها شخصية قلقة، وذات كثافة نفسية عالية، يعود الفيلم عبر تقنية “الفلاش باك” الى الطفولة التي عاشها إبراهيم داخل أسرة مكونة من الأب والأم وطفلة صغيرة ذات احتياجات خاصة، وتحتاج الى مراقبة مستمرة ورعاية خاصة. يعيش الجميع في بيت نتبين من غير ذكاء كبير خلفيته الثقافية من خلال الكتب التي تؤثث فضاءاته. وخاصة مع وجود بعض العناوين القوية التي لها علاقة مباشرة، او غير مباشرة بالعبودية مثل مجموعة “زكريا تامر” “النمور في اليوم العاشر”، وكتاب “النبي” ل”جبران خليل جبران”، بالإضافة الى المشاهد التي تظهر فيها الطفلة الصغيرة مصغية إلى الحكايات، كإشارة الى الخاصية الاستشفائية التي يمكن أن يمنحها السرد إلى النفوس المضطربة والعليلة.

إن عودة الفيلم الى الطفولة، هي بقصد العودة الى المختبر السري الذي تستوي فيه الشخصية، وتتشكل عبر سيرورة معقدة من العمليات اللاشعورية والاحباطات والعقد، وفي حالتنا هذه، فإننا إزاء شخصية مهزوزة بسبب العلاقة الملتبسة مع الأم، والتي نلمسها في الفيلم من خلال الصراخ المتكرر، والتحسيس المستمر بالذنب، وتحميل الطفل ابراهيم مسؤولية العناية بأخته الصغيرة، وهو ما شكل عقدا متراكبة ساهمت في تفاقم وضعه النفسي. ومن هنا، جاءت أهمية الحكايات التي كان يقرأها الطفل إبراهيم على مسامع أخته الصغيرة، فهي ملاذ آمن يسمح للطفل بإعادة ترتيب البيت الداخلي، وتحييد جميع الاستيهامات والرغبات العنيفة التي تعتمل داخل لاشعوره، فضلا عن ضبط مسائل النمو النفسية والخيبات النرجسية، والورطات الأوديبية، والمشاحنات الأخوية، وذلك من أجل أن يصبح مؤهلا لفك الارتباط بالطفولة، والاستقلال بشخصيته، ولكي يعي قيمته الذاتية وواجباته تجاه محيطه ومجتمعه.

من عبودية الصك الى العبودية الطوعية:

يأتي الفيلم على ذكر صور شتى من العبودية بدءا من رغبة ابراهيم الملحة في أن يكون عبدا لسيد غني وقادر أن يوفر له شروط الحياة في حدودها الدنيا. وهي الرغبة التي عبر عنها ابراهيم غير ما مرة. لقد عاش طفولة صعبة وقاسية لم توفر له ما كان يصبو اليه من حنان وأمان، فراح يلتمسه في الخضوع التام لقوة غيبية قاهرة يجد فيها العزاء مما يعانيه من خوف وقلق، وحينما لم تتضح له الرؤية، أراد ان يلتمس الأمان عند سيد قوي وغني يكفيه عناء الجوع والخوف. ولسان حاله يقول مادام أن العبودية شر لا بد منه فمن الأفضل أن يختار المرء سيدا واحدا يكون غنيا وقادرا على إطعامه من جوع، وتأمينه من خوف. إنه نوع من العبودية المختارة التي عرفها الانسان، والمنتشرة في زماننا، وفي كل زمان، عن طريق الخدمة أو الوظيفة أو كافة أشكال السخرة والعمالة، والتي تجلت في الفيلم في صورة العمال الكادحين الذين يضعون أنفسهم في خدمة الأسياد الجدد (الباطرونا) في المعامل والمصانع والمناجم لقاء قدر هزيل من المال لا يضمن لهم الحياة الكريمة، مما يضطرهم الى الخوض في أشكال احتجاجية من أجل تحسين معيشهم. لكن “الباطرونا” لا قلب لها ولا مشاعر، وكل همها أن تراعي مصلحتها ولو على حساب الشغيلة. إنه شكل من العبودية تبلور بعد قرون من العبودية التقليدية في المجتمعات القديمة. قرون من العنف الدموي والاستغلال اللاإنساني راح ضحيته الملايين من المعذبين في الأرض الذين تم جلبهم عنوة من المستعمرات والشعوب المستضعفة، أو انتقاؤهم من أسرى الحروب، أو من الأطفال الذين تفرض عليهم العبودية، ويتم بيعهم بواسطة صكوك، وتوريث العبودية لأبنائهم من بعدهم، وهو النوع الذي أشار اليه عمر بن الخطاب بقوله: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا؟ انها اشكال كثيرة من الاستغلال والعبودية تنضاف اليها عبودية المجتمع والثقافة التقاليد التي تكبل المرء في أتون علاقاتها المتشابكة، فالثقافة حسب المنظور الأنثروبولوجي لا تكمن فقط في التقاليد والأعراف والطقوس، بل هي أيضا منظومة المعايير والقيم التي لا يمكن الخروج عليها دون أن يجني الإنسان لعنة المجتمع وعقابه.

يمكن أن نقول بأن المخرج في إطار تثبيت رؤيته الإخراجية لجأ الى توظيف لغة سينمائية بسيطة وخالية من التعقيد، يتم فيها التوصل إلى المعنى عبر العلامات البصرية المبثوثة على طول الفيلم، والتي تدخل المشاهد شيئا فشيئا الى قلب الموضوع، مثل استعارة الطائر في القفص، او استعارة القطار. وهنا، لا بد من الإشارة الى بعض التقنيات التي تحافظ على النسق الفيلمي، وتضبط الجملة الفيلمية، وتجعلها خالية من الركاكة، وتؤمن الانتقال من مشهد إلى آخر، وتضبط حركة الشخصيات داخل الحقل، وتدبر دخولها اليه وخروجا منه. وفي نظري توفق المخرج في تدبير دخول الشخصيات الى الحقل والخروج منه، من خلال الحرص على اللعب على ثنائية الحضور والغياب، ومراعاة الأثر الذي يخلفه انسحاب الشخصيات من الحقل، والكلام هنا عن مشهد الساحة، والتي يتم فيها الدخول الى الحقل والخروج منه بطريقة سلسة لا تسبب للمشاهد اي تشويش. وكذلك أثناء الحوارات بين السيد (السي بن عمر) والعبد (الشاب ابراهيم) فيقصر السي بن عمر. او الحوارات بين ابراهيم وعادل في المقهى.

كما تتنوع اللقطات في الفيلم، كما في جميع الأفلام، من قريبة ومتوسطة وبعيدة، فالبعيدة كما يقول “جون لوك غودار” للملهاة والقريبة للمأساة، وهي التي يكون فيها التركيز على الملامح لإظهار بعض التفاصيل والمشاعر، وخصوصا مشاعر الغبن، والتي يمكن التمثيل لها بلقطة صراخ الطفلة الصغيرة، أو صراخ الأم، أو تذمر الطفل ابراهيم في مشاهد الفلاش باك. ويمكن التمثيل للقطات البانورامية البعيدة بمشهد القطار والذي يعد استعارة على قطار الحياة الذي ينقلنا من محطة إلى محطة، مع ما يخلفه هذا الانتقال من رضوض في الشخصية لا يمكن أن تندمل إلا بالمشاعر الجميلة كالوفاء والتضحية والحب، والتي تفتح أفقا جديدا للأمل. وكما ابتدأ الفيلم بمشهد القطار الذي يصل المحطة، ينتهي كذلك بمشهد نفس القطار وهو يغادر المحطة نفسها ويشق طريقه مما يعطي للفيلم بنية دائرية تشبه بنية التفكير الانساني نفسه، الذي يدور على فكرة العود الأبدي، التي تقر بأن التكرار سمة أساسية من سمات الوجود، وأن العودة إلى نقطة البدء هي غاية الإنسان من أجل الالتحام مجددا بقدسية الزمن البدئي، وهو ما يعيدنا مجددا إلى موضوع الحرية والعبودية.

كما تجدر الإشارة الى أن أسماء الأماكن والأعلام كانت دالة مثل اسم “ابراهيم” والذي يحيل على نبي الديانات التوحيدية إبراهيم، والذي عانى من القلق الوجودي قبل أن يستقر على عبادة الله الواحد. ويمكن أن يحيل كذلك على “براهما” في الديانة الهندوسية إله الخلق، وثالث ثلاثة ضمن محفل الآلهة الهندوسية. وكذلك اسم الشاب “عادل” الذي تحول من الإطار الانتهازي المستعد لفعل أي شيء لصالح السيد الى المناضل النقابي الباحث عن العدالة المفقودة. واسم “سي بن عمر” والذي يعني صاحب المال، لأن “عمر” هو الاسم الذي يطلقه المغاربة على النقود.

وأخيرا فإن موضوع الحرية والارادة أسال الكثير من الحبر، وخصب الكثير من النقاشات عبر التاريخ، سيبقى موضوع سؤال مستمر، فالإنسان إذا لم يولد بصك العبودية في عنقه، فإن قدره أن يكون عالقا في شكبة من العلاقات التي تشبه نسيج العنكبوت. مما يذكرنا بأن الحياة.. كل الحياة، هو أمر مدبر. كما يقول انطونين أرتو.

لقد جاءت نهاية الفيلم مفتوحة على الأمل، وموحية بأن سبيل الحرية يمر عبر اختيار مسلك الحب والخير والجمال، قيم تجسدت في شخصية حسناء (لعبت الدور هاجر الشركي)، المرأة العليلة جسدا لكن السوية قيمة ومعرفة وعلما، السيدة التي منحت الحياة لإبراهيم وجعلته يكتشف ذاته، ومعنى أن يكون الإنسان إنسانا. نهاية الفيلم (La chute) يمكن أن أعتبرها من النهايات الجميلة في السينما المغربية، لأنها جاءت حافلة بمعاني الحب والاحترام وصارخة في وجه واقع مزيف يهيمن فيه حفنة من البشر على مصير ملايين البشر…

حسناء: غادي نمشي..

ابراهيم: نمشي معاك..

حسناء: واش نسيتي أنك عبد بحاجة لموافقة دسيدك؟

ابراهيم: ما بقيت عبد حد، دابا أنا عبد الطيبوبة والإنسانية اللي فيك.

حسناء: ياك ما الحب هذا؟

ابراهيم: عمري ما عرفت شنو هو الحب فحياتي…

حسناء: غادي نموت وتتعذب بعدي..

ابراهيم: إلى متّي نموت معاك، على الأقل إلى ما كنتش نجحت فحياتي نقدر نكون نجحت فموتي.

حسناء: غادي نمشي..

إبراهيم: نمشي معاك…

لينتهي الفيلم على إيقاع الحب وركوب قطار الحياة الذي ينطلق ماخرا عباب أرض قاحلة إلا من أشجار ونباتات خضراء متفرقة هنا وهناك تعكس أملا قائما رغم اليباب، أمل يتلخص في قصيدة لمحمود درويش عصفت بذهني وجينيريك النهاية يتتالى على الشاشة: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك