مغربنا 1 المغرب
يلقى الدرس الجامعي بصيغتين، صيغة المحاضرة وصيغة الأعمال التوجيهية (أو الأشغال التطبيقية بالنسبة لمسالك العلوم التجريبية). والعلاقة بين الصيغتين علاقة تكامل تام بين متناظرين، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون علاقة مفاضلة أو تعويض. فلا المحاضرة تقوم مقام الدرس التوجيهي ولا الأخير يعوض الأولى. بل إن المحاضرة في حقيقتها تمهيد وتقعيد نظري لفحوى الدرس التوجيهي، كما أن هذا الأخير تطبيق وتجريب لمضمون المحاضرة. وإذا كانت المحاضرة خطابا جامعا موجها للطلبة احتشادا وليس أفرادا، فالمراد من الدرس التوجيهي التذكير بفردية وفردانية الطالب الجامعي.. إنه السياق الذي تبرز فيه إمكانياته الخاصة في التعلم والتفاعل مع المعلم.
ولهذا نص دفتر الضوابط البيداغوجية الوطنية لسلك الإجازة، والمصادق عليه بقرار لوزير التعليم العالي والبحث العلمي، على أن تكون الأعمال التوجيهية إلزامية في الوحدات الأساسية. وتجدر الإشارة إلى أن دفتر الضوابط البيداغوجية الوطنية هذا يعتبر نصا مؤطرا يتعين الالتزام به في تسيير المسالك المفتوحة بالمؤسسات الجامعية، كما يجب التقيد به عند إعداد الملف الوصفي لمشروع المسلك الذي يتم إرساله عادة إلى الوزارة قصد الاعتماد.
والمقصود بالوحدات التي ميزها دفتر الضوابط البيداغوجية الوطنية لسلك الإجازة عن الوحدات التكميلية، تلك الوحدات التي تعكس الطابع المعرفي للمسلك والتي تستأثر بغلافه الزمني الإجمالي. هكذا، يتكون الملف الوصفي لكل وحدة أساسية، والذي تتم تعبئته ضمن الملف الوصفي للمسلك، من مكونات الوحدة ومن النسبة المئوية المخصصة لكل مكون من مجموع الغلاف الزمني للوحدة. على أن تكون الأعمال التوجيهية مكونا إلزاميا، وألا تقل نسبة الأشغال التطبيقية عن %20 من الغلاف الزمني للوحدة التي تحتاجها.
غير أن هذا الإطار التنظيمي يسائل المؤسسات الجامعية عن مدى جاهزية بنياتها وعن مدى اتساع مواردها المالية لبرمجة دروس الأعمال التوجيهية بالموازاة مع جميع الوحدات الأساسية لسلك الإجازة. وهو سؤال يحيلنا الى إشكال أعمق وأعقد حول واقعية الملفات الوصفية لمسالك الإجازة المقدمة للاعتماد.
فما نشهده اليوم في عدد من المؤسسات الجامعية، خصوصا منها ذات الاستقطاب المفتوح والتي تعرف بعض الاكتظاظ، هو حصر حصص الأعمال التوجيهية على بعض الوحدات الأساسية دون الأخرى. حصص يتم إسناد تدريسها لثلة من الأساتذة أغلبهم أطر مكملة يُختارون مؤقتا بمقرر لرئيس المؤسسة التي يتبع لها المسلك. لأجل هذا تستعين المؤسسات الجامعية بأساتذة غير دائمين تكون لهم صفة أساتذة مشاركين أو أساتذة يتقاضون تعويضات عن الدروس، كما هو منصوص عليه في النظام الأساسي الخاص بهيئة الأساتذة الباحثين بالتعليم العالي.
وهنا تتجلى في العلن بعض الإكراهات المالية التي تعاني منها المؤسسات الجامعية، والتي تعترض سبيل الأشغال التوجيهية وتمنع تعميمها على كل الوحدات الأساسية. إكراهات مرتبطة بالجانب المالي لتسيير المؤسسات الجامعية وتتعلق بالأساس بمحدودية الموارد المالية وبضرورة التقيد بالاعتمادات المفتوحة برسم السنة المالية. وبما أن ميزانية الاستثمار غالبا ما يتم إعدادها على مستوى رئاسة الجامعة، فالمؤسسات الجامعية تعنى بموازنة نفقات التسيير التي تضم فصلا مخصصا لنفقات الموظفين، يشتمل على الأجور والتعويضات عن الدروس، بالإضافة إلى فصل مخصص للمعدات والنفقات المختلفة. هذا الأخير يشتمل على نفقات يمكن الاصطلاح عليها بالنفقات الثابتة وغير القابلة للتقليص، كتكاليف الانارة والماء وتكاليف الحراسة والبستنة والتنظيف. وبالتالي يتم تسقيف نفقات الموظفين وخصوصا منها التعويضات عن الدروس كمطية لتقليص ساعات الأعمال التوجيهية. ونتيجة لهذا تصبح حصة الدرس التوجيهي مرهونة بحصتها في ميزانية المؤسسة الجامعية.
والحال أن محدودية النفقات المعتمدة بالمؤسسات الجامعية، وما تفضي إليه من ضرورة الموازنة بين تعويضات الأساتذة ونفقات التنظيف والبستنة، ليست إلا تمظهرا ميكرو اقتصاديا لموازنة ماكرو اقتصادية بين حجم وتوزيع النفقات العمومية ونسبة الاقتصاد غير المهيكل في الاقتصاد الكلي.
والشاهد عندنا أن ضعف برمجة الأنشطة البيداغوجية بالمؤسسات الجامعية ليس إلا تحفيزا لنشاط اقتصادي غير خاضع للتضريب ومنتج لخدمات ذات قيمة سوقية من شأنها زيادة الموارد الجبائية للدولة إن تم التصريح بها. والحديث هنا عما يسمى جورا بمراكز الدعم والتقوية، وهي مراكز خاصة غير خاضعة لنظام ضريبي، تقدم خدماتها بمقابل مادي وتحت غطاء جمعوي. علما أنها لا تدلي برقم الأعمال السنوي، وبالتالي تساهم في تضييق القاعدة الضريبية عبر الاخفاء غير المشروع للوعاء الضريبي.
هاته الكائنات الاقتصادية تختار البقاء في الظل، ليس فقط للتهرب من دفع الضرائب، بل أيضا للتهرب من معايير ومساطر الحصول على ترخيص مزاولة نشاطها. ولعلّها تملأ الفراغ الذي خلفته الجامعة بما لا يناسب الطالب من دروس شبه جامعية. في أماكن مظلمة من محيط الحرم الجامعي، يُشاع فيها الوهم ويُستخَف فيها بعقول الطلبة. أماكن يُعرض فيها النجاح بضاعة للبيع ويُبخَّس فيها عمل الأستاذ الجامعي، غائبا عنها كان أو حتى حاضرا محاضرا بها. والواقع أنها أعمال كلها هدر للزمن الجامعي ولا تخشى التطبيع مع الكسل، و” الكسل تمييز بين الوقت والزمن، فمن يملك وقتا أكثر، يتحرر من خشية الزمن”، كقول شاعر العربية محمود درويش.
والأكيد أن تحقيق النمو الاقتصادي والتنمية الشاملة والمستدامة لا يتسنى إلا بالتصدي للاقتصاد غير المهيكل، عبر إصلاحات مطردة تتم بلورتها في إطار سياسات عمومية تعالج الأسباب الكامنة وراءه. إلا أنه في حالة مراكز الدعم التي تنبت بهوامش الفضاء الجامعي، نحن لسنا أمام فاعلين اقتصاديين يرجى إدماجهم في الاقتصاد الرسمي عبر تيسير القيام بنشاطهم في إطار قانوني ومنظم، بل نحن أمام ظاهرة شائنة ومشينة يجب اجتثاها من جذورها عبر إعمال القانون بالمؤسسات الجامعية.
وإذا كان التحكيم بين الضوابط البيداغوجية والاعتبارات المالية يرجح كفة هذه الأخيرة، فالمسؤول المباشر عن التقصير في برمجة الدروس التوجيهية بمؤسسة جامعية عمومية، هو أيضا مسؤول غير مباشر عن تفشي سوق موازي وغير مقنن للدروس الجامعية الخصوصية. لكي لا ننسى أن القانون المتعلق بتنظيم التعليم العالي ينص على أن هذا الأخير يفتح في وجه جميع المواطنين المتوفرين على الشروط المطلوبة على أساس تكافؤ الفرص.
نستنتج إذن أن الضوابط البيداغوجية لسلك الاجازة واضحة وصارمة من حيث الزامية برمجة الاعمال التوجيهية مع ضرورة تعميمها، وهذا قانون نافذ. إلا ان تنفيذ النفقات المعتمدة بميزانيات بعض المؤسسات الجامعية يفضي الى ما دون ذلك. وهذا تعطيل لقانون نافذ. وحين يكون تنفيذ نفقات مؤسسة عمومية حافزا للاقتصاد غير المهيكل، فذلك ضرب لاستدامة المالية العمومية، وتلك عاقبة تعطيل قانون نافذ.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك