مغربنا 1 المغرب
87% من الأطفال المغاربة المتمدرسين لا يتقنون العمليات الحسابة البسيطة! شكرا للسيد الوزير على شفافيته وشجاعته. رقم صادم بكل المقاييس، وقبله أرقام لا تقل مأساوية عن ضعف مستويات القراءة في صفوف التلاميذ. وعلى الرغم من هكذا رصد للواقع المدرسي، توضع المناهج المدرسية بل والامتحانات الإشهادية وكأنها موجهة لأطفال دولة أخرى، حيث الأطفال يتقنون المهارات الأساسية للقراءة والحساب. بل تصادفنا نصوص وعناوين كنا نعدها من الثقافة العامة للبالغين الذين أنهوا مشوارهم الدراسي بامتياز، عناوين عن الحضارة، والطاقات البديلة وًتصريف اللفيف المقرون… أما في دروس الفرنسية في الأقسام الابتدائية فلا عجب أن نجد محتويات كانت في التسعينيات حكرا على طلبة مختصين في الجامعة من قبيل “كيف تتشكل الكلمة في اللغة الفرنسية”، والأليغوريا والمجاز. وما يقال عن الفرنسية ينسحب على العربية إذ يتم تحميل هذه اللغة الجميلة عبئا آخر إضافة إلى سوء سمعتها عند الفرنكوفونيين المتجندين للإطاحة بهذه اللغة، حيث يتم اختصارها عن غير قصد في زخم من القواعد لا محيص عن استظهارها. فهي بحسبهم ليست فقط غير قادرة على مسايرة العصر ولكنها لا تفيد في شيء عملي: يقولون لماذا يجب على تلميذ الابتدائي أن يسمي المصدر مصدرا والنعت نعتا والمضاف مضافا… إلخ. ويقولون بأن مسايرة العصر لا تكون فقط بإضافة نصوص ومواضيع لها علاقة بالحاسوب والفضاء بل بإنتاج محتويات علمية باللغة العربية: إنشاء موقع، برمجة بالعربية… إلخ. أشياء لا يمكن طلبها من أستاذ اللغة العربية الحالي، الذي ترعرع كما جلنا في كنف هذه اللغة الرائعة ولا يمكنه سوى الدفاع عن قواعدها. ولكن السؤال يظل وأيا كان المدافع أو المهاجم: من عليه أن يتكلم لغة عربية سليمة ويعبر من داخلها عن وجدانه، أولا، ومن عليه أن يتمكن ويصون قواعدها؟ هل نربي نحويين في المستوى الابتدائي أم ناطقين متكلمين قارئين؟
بقدر ما يهم الجواب عن هذا السؤال المنهجي الإجرائي بقدر ما يهم رصد منبع الخلل وهو سؤال غير مفكر فيه أصلا.
منذ سنوات يتم تأنيب ضمير أساتذة المدرسة العمومية المغربية بسبب ضعف مستوى الطلبة الذين يصلون إلى مسارات متقدمة من الدراسة. ويبدو أن الحل الذي توافق عليه الجميع هو إنزال الجامعة بمحتوياتها الدقيقة أحيانا إلى الثانوي والإعدادي، إن لم نقل الابتدائي: دروس السيميائيات مثلا وتحليل الخطاب والسرديات، إضافة إلى دروس الإعراب والنحو المغرقة في التخصص، غزت المقررات، ربما نتيجة التكوين الأكاديمي للمبرمجين وربما بغية تحديث المناهج وربما تأسيا بنظريات ديداكتيكية ترمي إلى نشر معرفة متقدمة عن السرد والخطاب، ولكنها لا تراعي خصوصيات النسق المجتمعي المعرفي المغربي بل وطبيعة الأولوية حيال متعلمين ذوي عجز كبير في أساسيات التعلم. ندرك جيدا أن تلك المناهج ليست القدوة المثلى والطريق السليم نحو إتقان المهارات الأساسية للتعلم، بل هي مناهج تشير إلى مسارات تخصصية بعينها في مجال الآداب واللسانيات والعلوم الإنسانية.
وعودة إلى موضوعنا، موضوع القراءة والحساب، يجب التذكير، إن كنا قد تحدثنا بصدده أصلا من قبل، أن تلك الصعوبات لا تنتج بالضرورة عن تقصير في الأداء من طرف المدرس ولا حتى من خلل في المناهج ولا عن غض طرف سيئ الظن من قبل المسؤول عن الشأن التعليمي. الخلل قد يكون ببساطة في “أعطاب” وخصوصيات في تركيب دماغ الطفل الذي لا يمكنه بطبيعة الاختلاف البنيوي الذي يميزه أحيانا أن يتعلم بطريقة جرت العادة أن نقول عنها إنها الأنسب والأمثل في حين أنها تعيق تعلم طفل “مصاب” بخصوصية في التركيب من قبيل التوحد، أو متلازمة أسبرجر… أو بالديسليكسيا مثلا. ولا شك أن هذا النوع الأخير من الخصوصيات الفردية لبعض التلاميذ هو الأكثر انتشارا وإلا لما كان تزايد الطلب على أخصائيي الأورطوفونيا، أي مقومي النطق، في اطراد مستمر.
وهنا وجبت الإشارة فقط إلى العائق الذي قد يشكله هذا النوع الصامت من الخصوصية عند الطفل: الديسليكسيا كما تعرفها الوزارة الوصية منذ أن تقدمت مشكورة من طرف الآباء بإقرار مدرسة مندمجة، دون تمييز على أساس الخصوصيات الفردية والإعاقات الخفيفة والثقيلة، هي في الأساس عبارة عن طيف واسع من صعوبات التعلم يشمل عسر النطق أولا ثم عسر القراءة فعسر الحساب والتموقع في الفضاء، بالإضافة إلى أعطاب كثيرة قد تصيب الذاكرة قصيرة المدى وبطء أو صعوبة الكتابة. وتشير الأبحاث في هذا الميدان إلى أن للديسليكسيا علاقة وطيدة بالاستعمال المفرط للشاشات الإلكترونية. فهل من عجب أن يكون الطفل ماهرا في الحاسوب وغيره، عصيا على التعلم التقليدي؟ كما تذهب دراسات أخرى إلى أن الخلل قد يكون في جهاز التوازن العام للجسم، إلا أن فرضية الوراثة تظل قائمة بالنسبة لقسم آخر من الدراسات من السهل على أي شاء الاطلاع عليها. وأيا كان مصدر الخلل، فتجاوزه ممكن عبر التشخيص المدرسي المبكر والتكوين الملائم للأطر التربوية. وفي الأمر تفصيل طويل لا داعي إليه أمام من يخبرون هذا الأمر وهو عهدة إليهم. ولعل المشجع في الأمر أن الطرق المتبعة من قبل مختص الأورطوفونيا مفيدة وملائمة لتدريس اللغات والرياضيات حتى بالنسبة للفئات غير المعنية بتلك الخصوصيات التعلمية المذكورة. ذلك أنها تنبني على اللعب وتوظيف كل الحواس وإعادة تأهيل مسالك المعلومة في الدماغ عند الطفل.
فكرة التدريس في المستوى الملائم هي في العمق فكرة الأقسام متفاوتة المستوى classes différenciées، التي يعرفها المختص التربوي، وهي تفيد عموما أيًا كان المسمى في فرز التلاميذ بحسب مستوياتهم التعلمية وليس انطلاقا من فرضية نفس المستوى للكل. وتقترح منهجية تفمم أن يتم تجزيء الفصل إلى مستويات عدة مع إمكانية إدماج أجزاء بعينها عقب مراحل التعلم والاكتساب في أفق إدماج الكل في فصل متناسق. وانطلاقا مما سبق ذكره حول طبيعة صعوبات التعلم يمكن أن نتساءل عن طبيعة التدخل ونجاعة الأداة المستخدمة في هذه المنهجية الجديدة. فإذا كان الحل هو العودة بالتلميذ خطوة إلى الوراء (من أجل التقدم خطوتين إلى الأمام)، بنفس الوسائل المستخدمة آنفا دون اعتماد مسالك جديدة وتحديد الخصوصيات التعلمية المحتملة فالخوف كل الخون من أن هذا التدخل لن يفيد في شيء، وكلنا رغبة في أن يفيد، أما وإن كان الأمر عكس ذلك، ولا يمكن للمرء الغيور إلا أن يتمنى النجاح، فيمكن الذهاب أبعد من المنهجية الهندية المقترحة وتصور فصول عابرة للأقسام الابتدائية. إذاك يمكن لتلميذ أن يكون مسجلا بقسم محدد، حسب تقدمه الطبيعي في السن والتعلم، ويحضر دروسا في مستويات أعلى أو أقل وفق مستواه التعليمي الحقيقي وليس المفترض. لكن هكذا تصور يقتضي القطع مع أسلوب التنقيط كنمط محدد للنجاح والرسوب واعتماد نمط الاكتساب ومرجعيات المهارات الأساسية الموجبة للتقدم في المسار التعليمي. وهنا نكون بصدد الحديث عن نمط قائم في بعض الدول الاسكندنافية والتي تعتبر رائدة عالميا في المجال التربوي.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك