... رأي / الجمعة 01 نوفمبر 2024 12:29:03 / لا توجد تعليقات:
مغربنا 1 المغرب
يعد العلاج بالسماع أو العلاج بالموسيقى والألحان الشجية، التي تطرب النفس وتريح الروح وتسكن القلب، من الأساليب القديمة التي اعتراها النسيان ولَفَّها الطي والكتمان، فباتت موضع تهكم واستهجان من لدن البعض، فكان أن غطى ركام الأراء والأقوال على ما فيه من اللطائف و الأسرار.
و ما أجمل قول الإمام الكحال وهو يصف هذا الباب العظيم من أبواب النفس الإنسانية : “السماع المطرب طب للأنفس الإنسانية، وراحة للقلوب البشرية، وغذاء للكثير من الأرواح، وهو من أجل أنواع الطب الروحاني، وسبب لسرور الإنسان وبعض أنواع الحيوان”.
وقيل أنّ السماع حانة الأشواق ورياضة أهل الصفاء ومقام المحبين، وهو سر دقّ على أفهام العوام، وخُصّ به أهل المعرفة. والله تعالى يلقي الروح على من يشاء من عباده، ويهدي من يشاء إلى السعادة.
وقد عُلم من جهة الطب، أن سماع الطرب ” من أعظم أسباب السرور، وأن السرور باعتدال يذكي الحرارة الغريزة، ويقوي أفعال القوى كلها، ويحفظ الصحة، ويبطئ بالهرم، ويدفع كثيرا من الأمراض، ويخصب البدن ويحسن اللون”[1].
والقرءان أجمل ما تغنى به المتغنون، وأحلى ما ترنم به المترنمون، “فما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به”[2]. ومعنى أذن الله أي ما استمع الله[3]، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم كذلك: “الله أشد أذنا للرجل الحسن الصوت بالقرءان”[4]. أي يشتد استماع المولى سبحانه لنعمة أنعمها على خلقه كي يزدادوا بها حسنا وقربى.
وأما سماع الأشعار والكلام الرقيق النفيس بصوت شجي، فمعلوم أثره البليغ على النفوس، “فالأطفال إذا بكوا عللوا بألحان طيبة، وغناء لذيذ، والإبل بحذاء معروف فتطرب وتسير وتخفف عنها ثقل الأحمال”[5]. ولا ينكر هذا وأمثاله إلا من حرم نعمة الذوق السليم، وأسدل على أذنه السماع الجميل.
قال ابن عبد ربه : “وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم، ويجري في العروق، فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وتنمو له النفس، وتهتز الجوارح، وتخف الحركات؛ ومن ذلك كرهوا للطفل أن ينوّم على أثر البكاء حتى يرقص ويطرب”[6]. فلا يخلو مجتمع من ترانيم خاصة لتنويم الأطفال وترويض بكائهم، وهي لازالت إلى اليوم من وسائل الأمهات المتوارثة عبر الأجيال.
ويعد العلاج بالموسيقى اليوم أحد أهم مدارس العلاج النفسي، إذ بات يستعمل على نطاق واسع في أمريكا وأوربا.
وقد ذكر الإمام الكحال أنه كان بالأندلس أطباء عارفين بالموسيقى يأخذون نبض المريض ويغنونه في نغم يوافقه، فيزيلون بذلك أكثر ما به من الألم[7].
فيا حسرتاه على هذا العلم المندثر الذي لم يبق له ذكر ولا أثر! فقد كانوا يقيسون نبض المريض وعلى أساسه يصفون الألحان المناسبة، قمة في الدقة والروعة، التي تجعل المتخصص يقف منبهرا!
ومهما قلت فلن أستطيع أن أقارن بين مدرسة الأندلس الشامخة الدقيقة، ومدارس العلاج بالموسيقى في الغرب، التي ربما لم يصل إلى علمها بعد قياس نبض المريض وتأثير الموسيقى الموازية عليه، واكتفوا فقط بوصف الموسيقى الهادئة للمرضى.
ولست هنا بصدد إقرار التداوي بالموسيقى المصحوبة بالآلات، ولكني أقرر نفع الصوت الشجي في ذلك، لأن الخلاف في الموسيقى قديم بين أهل العلم لا يمكن رفعه بسهولة، لكن هل يمكن أن نتخذ من ثبوت نفع الموسيقى في مداواة الأمراض بعد فحوص وتجارب يشارك فيها الأطباء والعلماء كمرجح للقول بجوازه مطلقا أو عند الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة عند الاقتضاء؟
و للإجابة أقول: أنه متى تم إثبات منفعة التداوي بالموسيقى، فإنه يمكن أن يعتد بها كمرجح، و ذلك للأسباب التالية:
أولا :لأن الشريعة مبناها على جلب المنافع وتكثيرها، ودفع المضار وتقليلها، والطب مداره على نفس القاعدة.
ثانيا:أن دليل التحريم ظني، لا يمكن الجزم بدلالته القاطعة على التحريم، ومن القواعد المقررة أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. وإلا لما وجد الخلاف أصلا بين الصحابة في صدر الإسلام، وظل الحكم محل سجال بين علماء الإسلام إلى يومنا هذا، وليس هنا مقام للتفصيل.
ثالثا: أن العلماء أجازوا التداوي بالنجاسة و نقل الأعضاء من جسد لآخر، رغم وجود دليل التحريم الصحيح الصريح، لكنهم قالوا بالجواز من باب تحصيل المصلحة ودفع الضرر واحتمال أخف الضررين و الضرورات تبيح المحظورات و قواعد التيسير، وغيرها من القواعد التي يتفنن المحرمون للموسيقى في إعمالها في غير ما موضع، لكنهم يستنفرون الأدلة و يجزمون بالتحريم هاهنا، رغم ما في الأمر من سعة. ولا أدري لما يضيق صدر البعض لهذا النوع العلاجي الطبيعي، و في المقابل يتسع صدرهم لجواز استعمال التخدير والكحول والنجاسات التي ورد الدليل الصريح و الصحيح بتحريمها، ناهيك عن الأدوية الكميائية والأغذية المعلبة والمعدلة وراثيا، والتي يقر المختصون أنفسهم أضرارها الجانبية الخطيرة.
إننا فعلا في حاجة إلى إعادة النظر في الكثير من الفتاوى والأحكام الجاهزة المتعلقة بالموقف الحاسم و المتعجل من العلاج بالموسيقى، وأما بدون موسيقى فالقول بالتحريم في نظري تنطع و مخالف للقواعد الفقهية التي أشرت إليها لماما، “فبراهين السماع ظاهرة والراحة به واضحة”[8].
هذه أحد مجالات الاجتهاد المغفلة التي ينبغي تفعيل آلية الاجتهاد فيها، بعيدا عن العصبية المذهبية والتقليد الأعمى. وقصدي بهذه المقالة المقتضبة التثوير و تقليب النظر. والله الموفق و الهادي إلى سواء السبيل.
المراجع
– صحيح البخاري في كتاب فضائل القرآن باب الماهر بالقرءان مع الكرام البررة (9/158)رقم (7544) ومسلم كتاب المسافرين باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن الحديث رقم 233.
– فتح الباري شرح صحيح البخاري: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي: دار المعرفة – بيروت، 1379رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي.قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب .عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز.ج9ص69,
– سنن البيهقي الكبرى (10/289)ح21051.
– “الأحكام النبوية” ص167.
– العقد الفريد: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة: الأولى، 1404 هـ,ج 7ص4.
الهوامش
[1]– الأحكام النبوية في الصناعات الطبية .لأبي الحسن بن تقي الدين الحموي علاء الدين الكحال.دار ابن الهيثم.الطبعة الأولى.2006 م. ص 165.
[2]– صحيح البخاري في كتاب فضائل القرآن باب الماهر بالقرءان مع الكرام البررة (9/158)رقم (7544) ومسلم كتاب المسافرين باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن الحديث رقم 233.
[3] – فتح الباري شرح صحيح البخاري: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي: دار المعرفة – بيروت، 1379رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي.قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب .عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز.ج9ص69,
[4]– سنن البيهقي الكبرى (10/289)ح21051.
[5]– “الأحكام النبوية” ص167.
[6] – العقد الفريد: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة: الأولى، 1404 هـ,ج 7ص4.
[7]– الأحكام النبوية مصدر سابق ص168.
[8] -الأحكام النبوية ص 168.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك