أنتلجنسيا المغرب:فهد الباهي/م.إيطاليا
في الوقت الذي يتجه فيه العالم نحو
رقمنة الفضاءات العمومية وتعزيز الأمن عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي وكاميرات
المراقبة الذكية، يطفو على السطح في المغرب جدل خافت، غير مؤطر، حول الغاية
الحقيقية من هذا الانتشار السريع لعدسات الرصد في الأزقة والشوارع والمحطات
والأسواق.
الحكومة المغربية تتصرف وكأنها بصدد
تنزيل مشروع حضاري متقدم، بينما الواقع الاجتماعي والثقافي والتشريعي لا يواكبه،
بل ويقف على النقيض التام، فالفكرة قد تكون أوروبية، متقدمة في مضمونها، لكنها عندما
تُزرع في بيئة لم تُهيأ بعد نفسياً ولا حقوقياً، تصبح مصدر خوف، لا أداة طمأنة.
الملاحظ أن السلطة تتعامل مع المواطن
كما لو كان جسداً فقط، تغيب فيه الروح والعقل، حين لا تُكلف نفسها أدنى مجهود
لإقناعه بجدوى المشروع، أو شرح مضمونه، أو طمأنته على حياته الخاصة وحقه في
الخصوصية "المواطن بغا يعرف حوايجو فين غادي يتنشرو".
السلطات تنشر الكاميرات كما لو أنها
تضع شباكاً لاصطياد المجرمين، دون أن تلتفت لحساسية المجتمع المغربي الذي لم
يتصالح بعد مع فكرة الرقابة، والذي لا يثق بشكل كافٍ في المؤسسات، خاصة حين يتعلق
الأمر بحريته الشخصية.
تعليقات المغاربة على "فيسبوك،
إكس، إنستغرام، وتيك توك" تعكس رفضًا ضمنيًا لهذه الكاميرات، ليس لأنهم ضد
الأمن أو ضد الحداثة، بل لأنهم يخشون أن تتحول هذه الأدوات إلى وسيلة تسلط لا
وسيلة حماية.
في السياق الأوروبي، كاميرات المراقبة
جزء من منظومة تحترم المواطن، تحاسب المتجاوزين لكن لا تنتهك الحرية، وهنا يكمن
الفارق بين مجتمع تربى على الحقوق ومجتمع يُطلب منه أن يُسلم بها دون أن يُمنحها
" دير معاية وثيقة وصور".
الحكومة المغربية مطالبة بالوضوح،
وبالخروج من منطقة الصمت المريب، فعقل المواطن ليس خاوياً، ولا ذاكرته ضعيفة، هو
يعلم جيدًا كيف استُخدمت تقنيات المراقبة سابقًا لتصفية حسابات سياسية وشخصية مع
معتقلي الرأي العام ، منهم من هاجر ومنهم من لا يزال وراء القضبان...
العدسات التي ستُزرع في الشوارع، إن
لم تكن لها وظيفة محددة وموثقة ومقننة، ستصبح عيوناً تتجسس لا أدوات لحماية النظام
العام، لا مشكلة، وهنا الفرق شاسع بين المراقبة القانونية والتجسس المقنع بثوب
الحماية.
لأجل من ومن من ؟
المطلوب هو وضع ميثاق وطني للمراقبة
الإلكترونية، تشارك فيه منظمات حقوق الإنسان، والجمعيات المدنية، والمواطنون
أنفسهم، حتى تكون العملية شفافة وخاضعة لمراقبة مجتمعية وقضائية، وإذا كانت هناك
أضرار أو شيء ما يتم تداركه اليد الواحد لا تصفق .
أقولها جهارا وتكرارا دون خوف أو تردد
المراقبون المكلفون بهذه الأجهزة، يجب
أن يخضعوا لتكوين صارم، وأن يُحمَّلوا مسؤولية قانونية حقيقية، على أن تكون هناك
عقوبات ثقيلة تصل حد التجريم والإعدام القانوني إن هم تلاعبوا بمعطيات الناس
وأخرجوها للعلن، ولأي جهة كانت في الدولة .
نحن في زمن لا يمكن فيه أن تطلب من
المواطن الثقة، دون أن تبرهن على أنك أهل لها، لا يمكن أن تزرع الكاميرات كما تزرع
الأشواك، ثم تطلب من الناس أن يصفقوا.
في إيطاليا، حيث أعيش، الكاميرات في
كل زاوية، لكن لا أحد يشعر بالانتهاك، لأن التعاقد الاجتماعي بين المواطن والحكومة
واضح: الحرية مصونة، الخصوصية خط أحمر، والأمن ليس مبررًا للرقابة العشوائية.
عموما في أوروبا، المواطن يدخن سيجارة
"حشيش" في الشارع ولا يتدخل الشرطي، لأنه يُفهم أنه يعاني من إدمان، لا
يُعامل كمجرم فورًا، تُمارس القبل في الفضاءات العامة دون تدخل أمني، طالما هناك
تراضٍ واحترام للآخر.
أراعي ضوابط حريات المغاربة لكي لا
يتسرع المارمدون برمينا بتهم وأباطيل.
المجتمع هناك يدرك أن دور الكاميرا هو
حماية الحياة، لا انتهاكها، رصد الجريمة، لا اصطياد الناس في لحظات ضعفهم أو
خصوصياتهم.
أما نحن، فنخاف أن يُوظف كل شيء ضدنا،
لأننا لا نملك ثقة حقيقية في من يسيرون الأمور.
مع الأسف هذا مربط الفرس.
أنا شخصيًا لست ضد الكاميرات، بل
معها، ومع تعميمها، لكن بشرط: أن تحترم كرامتي كمواطن، أن تحفظ تسجيلي، أن لا
تُستخرج صوري إلا بأمر قضائي وبمبرر قانوني لا لبس فيه.
ما أخشاه، هو أن تُستخدم هذه
الكاميرات يومًا في تشويه صورة معارض، أو في تسريب لحظات حميمية لمواطن بسيط، أو
في تتبع تحركات شخص لا لشيء سوى أنه لا يصفق.
المواطن المغربي اليوم أذكى مما تعتقد
السلطة. يعرف أن المراقبة ليست فقط أمنًا، بل سياسة أيضًا. ويعرف أن الأنظمة التي
لا تحترم خصوصية الأفراد لا يمكن أن تبني ثقة ولا وطنًا حرًا.
إذا كنتم صادقين في نيتكم، أعلنوا عن
قانون واضح يُحدد صلاحيات هذه العدسات، أخرجوا بتفاصيل المشروع، أطلقوا حوارًا
مجتمعيًا حقيقيًا، ولا تكتفوا بالقرارات الفوقية التي لا تجد قبولاً في الأرض.
كاميرا المراقبة يجب أن تخدم المواطن،
لا أن تراقبه كمشتبه فيه دائم. يجب أن تكون عينه الآمنة، لا عينه المرعوبة.
ما نحتاجه اليوم ليس عدسات جديدة فقط،
بل ذهنيات جديدة، مؤسسات تؤمن بالحقوق قبل الواجبات، دولة تضع الإنسان في صلب
سياساتها لا في خلفية مشهدها الأمني.
من حقنا أن نُسائل الحكومة: هل
الكاميرات لحمايتنا أم لمراقبتنا؟ من سيشاهدنا؟ من سيحتفظ بالمقاطع؟ من يملك حق
الاطلاع؟ ومن يضمن ألا تُسرب الصور للصحافة أو تُوظف في المحاكمات الأخلاقية أو
السياسية؟
إذا كنتم تنوون تثبيت العيون في
الزوايا، فنحن نطلب أن تكون العقول قبلها حاضرة، والقلوب قبلها نزيهة، والنوايا
قبلها صافية.
إلا فإن هذه الكاميرات ستصبح كالأبواب
المفتوحة على جهنم، تفضحنا أكثر مما تحمينا، وتكشف هشاشة العلاقة بين الدولة
والمواطن.
أقولها لكم بصراحة: المواطن المغربي
لم يعد يخاف من الكاميرا، بل من من يشغلها، ومن من يملك زر تشغيلها وإيقافها، ومن
من يتحكم في توجيهها.
لهذا، لا نريد مشروعاً مشفراً، نريده
واضحاً، عادلاً، آمناً، ومتوازناً، يضع الإنسان في القلب لا تحت العدسة.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك