ذكريات العيد..من وحي ذاكرة الجيل الذهبي

ذكريات العيد..من وحي ذاكرة الجيل الذهبي
... رأي / الاثنين 31 مارس 2025 - 20:39 / لا توجد تعليقات:

بقلم:نجاة حمص

كلما أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية خبر ثبوت رؤية الهلال، خلعنا ثوب الرشد و الوقار وأطلقنا سراح الطفل الذي بداخل كل منا، لنعيش فتنة  الغابر من أيام طفولتنا السعيدة، ولنرمم العفوية القابعة في ركن قصي من أرواحنا المتمردة على الزمن، فعيد الجيل الذهبي لم يكن ليمر مكتوم الصوت ولا منزوع الدسم، كنا ولازلنا نحسن الاستمتاع بكل التفاصيل الدقيقة.

صحيح أن العيد فرحة، لكن ثدييات الجنس البشري مصرات على النكد، ورغم ارتباط المناسبة عندنا بالأعمال الشاقة وجلد الذات وسحلها، بغسل الاواني النظيفة وحمل الزرابي والأفرشة وإعادة فرشها، إلا أننا كنا نفعل ذلك بسعادة المعفي الراغب في مد يد العون فقط، حتى نتمكن من إنهاء الطقوس الكربلائية قبل ليلة الحنة.. 

حملة النظافة دائما ما كانت تنتهي نهاية حلوة المذاق، فلا عيد لنا دون رحلة البحث عن "سطل" الحلويات الذائع الصيت، الحاضر الغائب، صاحب المهابة البعيد دائما و أبدا عن متناول الأطفال، وعندما نقول حلويات، فالأمر لم يكن يتعلق بكعب الغزال ولا بقرن وحيد القرن، كل ما هنالك هو حلويات لا يتعدى قوام عجينتها :سكر.. دقيق..زيت.."خمارة"حمراء و"خمارة" بيضاء،.. تعجن المقادير ثم تمدد العجينة وتشكل منها أشكالا  عديدة:  قلوب و ورود و أشجار،..و حالما توضع في الفرن ينبعث عبق السعادة وبهجة العيد ، كيس الفانيليا يشكل دوامات الفرحة و يطلقها، فتنطلق  لتصل إلى أبعد الآفاق..

 رغم ضآلة أجسامنا، كنا نشارك في أعمال البيت، تارة بالترهيب وتارة بالترغيب و الابتزاز العاطفي، بغية الاستفادة من "لباس" العيد، جوهر الفرحة والركن الأساسي الذي لا يستقيم من دونه عيد، والذي تحدد جودته وثمنه وموضته  بسجلك القانوني و العدلي داخل وخارج البيت، و يرتبط بحسن السيرة و السلوك،  وعدم تدخل فاعلي الخير، الذين غالبا ما يكون طول لسانهم أضعاف طول أجسادهم، ولا تعرف كيف استطاعوا تسجيل ذلك الكم الهائل من المخالفات، ولا كيف ينبتون من العدم.

مساء ليلة الحناء، تعود الأم من "شوبينغ" الرحيبة ومحلات "شارع اسكيكيمة" و "بوكراع"، توزع علينا ملابسنا وأحذيتنا، ثم تجلس أرضا لاسترجاع أنفاسها "جيبولي نشرب"، وهي تنزع ملحفتها و تبتسم برصانة وكياسة، قبل أن ينتهي  الصغار من فحص المشتريات واستكشافها، و يهجموا عليها بشفاههم الصغيرة طابعين عليها وابلا من القبل العشوائية، فتجاهد بكل قوتها لاقتلاع تلك المخلوقات القصيرة التي تلتصق بها ك"العلقة"، وهي تتضرع  لكل من محرومة ب"العگر" وقلة  البويضات..

قبل الشروع في الحناء، تجمع الأم الملابس بعدما قمنا بقياسها وتجربتها أكثر من مرة خوفها عليها من الاتساخ، ثم نتحلق حولها وقد أحضرت "جيرة" فخارية، امتلأت  بخليط الحناء و منقوع الشاي وعصير الحامض..

 أما عن نقش أمي، فلم أكن لأجد له أي مدرسة فنية قادرة أن تتبناه، نقش لم يكن ليقبل به من هو في كامل قواه العقلية ولو تحت التهديد بالسلاح الأبيض، لكننا، آنذاك، كنا مستمتعين و مسلمين لها الأيادي لتفعل بها ما تشاء، وكلما انهت يدا  قلبتها وهي تهز رأسها برضا، دون أن تنسى إضافة تلك النقط الشهيرة على ظهر الكف، فوق مفاصل اليد، زيادة في الرونق أو تقليلا من فظاعة الجريمة الفنية ربما..

صباح العيد، كنت  نستيقظ على صوت العجائز اللواتي ينادين "تاغروين"، صدقة توزع على الصغار والكبار، يتناهى إلينا من بعيد صوت موسيقى أندلسية قادم من راديو عتيق، سلام طويل مع ضيوف أنيقين،  وعطر خاص يتولد نتيجة امتزاج  "تيدكت" ب "الرشوش". برائحة الملابس الجديدة و الخبز الطازج..

 أول ما كنا نفعله هو تفحص أكفنا والإطمئنان على نقوشنا،  نغتسل ونمشط شعرنا، نلبس ملابس العيد التي تحملنا لنرفرف عاليا بسعادة،   نقبل راس كل فرد في البيت بعد تقبيل يد الأب وجبين الأم، اللذان يقابلان قبلاتنا بعيدية نقبض عليها يحرص ونحن نتناول فطورنا الصباحي الملكي..

أرز بالحليب.. فطائر مدهونة بالزبدة.. شاي معتق ثقيل.. وحلويات أخرجت من مخبئها أخيرا تعانق مائدة العيد.

نفطر على عجل، لنتمكن من الخروج وملاقاة ابناء و بنات الجيران، تستقبلنا الصغيرات بالسؤال الشهير:"وريني حنتك"،.. سبحان الله نفس "التخربيقات" في أياديهن، كأنما أمهاتنا خريجات نفس المدرسة التكعيبية.

بعد كل سلام، كنا نسمع من الكبار طلب السماح من بعضهم البعض، فكنا نلقي التحية ونستسمح من الكل،.. يبهجني النظر إلى "الدراعات" البيضاء وهي تنزل بتؤدة من السيارات، فلطالما اقترن العيد في مخيلتي بهؤلاء القادمين على متن سيارات ميرسيدس، المتشحون بالبياض و العزة والأنفة...

 صرير إطارات السيارات، صوت فتح الأبواب وإغلاقها خلفهم، السلام المطول، الرائحة المميزة التي تتسلل إلى الانوف كلما انكببنا على رأس العجائز..تلك التفاصيل التي مهما علت بنا الدالة الآسية للعمر لم تسقط بالخلف.


لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك