حوار هادئ: من المُسَلَّمَاتِ العلمية إلى القطعيات الدينية

حوار هادئ: من المُسَلَّمَاتِ العلمية إلى القطعيات الدينية
... رأي / الخميس 02 يناير 2025 15:33:00 / لا توجد تعليقات:

بقلم:د فؤاد هراجة

ذات يوم ونحن في حصة درسٍ فلسفيٍّ بكلية الآداب بالرباط سلك الماستر، وبينما الأستاذ المحاضر كان يمدح ويثني على فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة بما قدموه من إزاحة للفكر السكولائي scolastique وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي أعلن موت "الإله"، تَخَشَّعَ قلب أحد الطلبة ورفع يده طالبا من الاستاذ تعقيبا، ولأننا قلة في القاعة لا نتجاوز العشرين، منحه الأستاذ الكلمة فقال: "أستغرب كيف يؤمن الناس عموما والمثقفون خصوصا بأن هناك إلها في السماء ينزل ليشاركهم تفاصيل حياتهم ويقول لهم هذا حلال وهذا حرام، وكيف تتزوجون، وكيف..."

قاطعه الأستاذ وهو الذي كان الطالب يعتقد بأن تعقيبه سوف يلقي الزيت على أفكاره لسابق علمه بتوجهه اليساري التقدمي ، فأجابه بصوت خافت وكلمات بطيئة: " شوف أولدي شتي كون ما كانش الدين والإيمان بالآخرة والله لا وصلت لا انا ولا أنت إلى هذه الكلية، خلي  آولدي عليك الدين والإيمان فالتيقار راه حابس علينا واحد الجحيم والفوضى لا تتصور".

تذكرت هذه الواقعة في ظل السجال الدائر والمتواصل حول مدونة الأسرة، وكيف أدى الدين أدوارا كبيرة ووظائف جمة في حفظ بنية الأسرة باعتبارها أقدم مؤسسة منظمة على مر التاريخ. لقد تمكن الدين الإسلامي في منطقتنا العربية والإسلامية ورغم كل الصعوبات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ورغم كل القلاقل والتغيرات السياسية أن يضمن قدسية الأسرة وقدسية الروابط العائلية، ويجعل منها أي الأسرة الثابت الذي لا يتغير، والثابت الذي يضمن استقرار الحياة ويبعث على الأمن الاجتماعي رغم الفقر والبطالة والأمية والهشاشة واللامساواة والعوز والعجز  الذي يعاني منه أفراد المجتمع. لقد ظل الدين بتشريعاته وتعاليمه وتوجيهاته وأخلاقه ملاذا للأسرة وحبلَها الذي يعتصم به كل أفرادها ويذعنون لقيَمه سواء تعلق الأمر بالعلاقة بين الزوجين أو مع الأبناء أو مع الوالدين أو مع الأقارب. كان الدين ولا زال الوازع والدافع لحفظ أمن الأسرة والمحفز على البذل والتضحية والفداء من أجلها طمعا في الأجر و الثواب العظيم عند الله تعالى.

على ذلك، يتبين لنا أن الأمن الاجتماعي الذي منطلقه مؤسسة الأسرة، لا يمكن ضمانه في مجتمعنا المغربي الذي يحتكر فيه نظام الحكم كل ثروات البلاد، ويستبد فيه بكل السلط، ويسلك فيه كل سياسات التفقير والتهميش، إلا من خلال الأمن الروحي الذي يؤَمِّنُهُ الدين بثوابته وقطعياته. إن القطعيات الدينية المتعلقة بالأسرة كانت ولا تزال تشكل الخلفية الإيمانية للأمن الروحي الأسري، حيث إن أفراد الأسرة المغربية المسلمة مهما بلغت خلافاتهم، يحتكمون ويخضعون ويذعنون لمرجعية النصوص التي يؤمنون أنها قطعية ويسَلِّمون أنها جديرة بالاحتكام إليها.

غير أن فئة من المثقفين داخل المجتمع المغربي أصبحت غير آبهة بهذا الأمن الروحي الذي أَمَّنَ نظام بنية الأسرة ورسَّخَ وظائف أفرادها بالرغم من كل الظروف الصعبة وغير المواتية التي عاشها ويعيشها المجتمع. ويأتي هذا الاستخفاف بالأمن الروحي من خلال الجرأة والجسارة على كل قطعيات الدين في مجال الأسرة بدعوى ضرورة الاجتهاد ومسايرة التطور الاجتماعي. هنا نتوقف لنتساءل بطريقة إبستيمية ومن داخل نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)؛

 - هل ثمة علم بدون مُسَلَّمات؟

- هل ثمة دين بدون قطعيات؟

تُعَدُّ المُسَلَّمةُ أو البديهية أو الموضوعة أو الأولية في نظرية المعرفة هي المنطق أو المبدأ أو القضية أو المقولة أو القاعدة التي تشكل أساس النظام الشكلي لأي علم ولا يمكن إثباتها عن طريق البرهان الشكلي، فالمُسَلَّمَاتُ في كل النظريات العلمية تؤخذ على أنها صحيحة ولا تحتاج إلى إثبات، فهي إذن مسَلَّمة ضمن نظامها الشكلي، وكل تساؤل عن مدى صوابيتها يدفع بالضرورة لتبني نظام جديد من المسَلَّمات ينتج عنه نظام شكلي جديد وقواعد جديدة، تماما كما حصل مع مُسلَّمات هندسة أقليدس، عندما قدم العالمان لوباشوفسكي ورينان مُسَلَّمات جديدة تجاوزت مسلمات من قبيل: "مستقيمان متوازيان لا يلتقيان" و"مجموع زوايا المثلث 180°". ومعنى ذلك أن تبني مسلمات جديدة ينتج قواعد جديدة ومن ثم نظاما جديدا.

قياسا على ما سبق، نقول إنه لا دين بدون قطعيات، فلا يستقيم البتة أن يدين عاقل بالمتغيرات، كما لا يستقيم عقلا أن يكون الدين كله ثوابت في واقع متحرك ومتغير، وهذا ما جعل الخطاب الإلهي يجمع بين المحكم والمتشابه، وبين النصوص قطعية الدلالة والنصوص ظنية الدلالة، مع جعل نسبة الثانية أكبر من الأولى حتى يفسح من جهة المجال للاجتهاد العقلي في الظنيات، ويضمن ثبات جوهر الدين بالقطعيات. إننا عندما نُقِرُّ بقطعيات نصوص بعينها وندعو إلى الاجتهاد فيها بدعوى مسايرة العصر أو بدعوى رفع الحيف على طرف ما، فإننا نقوم بهدم المسَلَّمات التي يتأسس الدين عليها، تماما كما يشكك عالم ما في مُسلَّمات علم ما فهو يهدف لنسفه من أساسه ويدعو لتجاوزه. غير أن الفارق هنا بين العلم والدين أن العلم يقوم فقط على العقل، في حين أن الدين يقوم على الإيمان والعقل معا في خط متوازي وفي علاقة تكاملية، وأن كل مساس بقطعيات الدين أي مسلَّماته يعني المساس بالإيمان الذي دفع المؤمن إلى التسليم بهذه النصوص القطعية. على ذلك فإن التلاعب بقطعيات الدين في أي مجال ومنه الأسرة، يشكل تهديدا للأمن الروحي، تماما كما يؤدي الشك في صوابية مسلمات العلوم إلى تبني نظام جديد وقواعد جديدة. 

فضلا عن ذلك، إننا عندما نقبل بكل سهولة تنحية نصوص قطعية كانت تنظم جانبا من العلاقات والمعاملات داخل الأسرة، ونعتبره ضرورة اجتهادية وندفع بالفاعل الاجتماعي إلى التسليم بالأمر ، فإننا نفتح بابا خطيرا قد لا نمتلك القدرة على غلقه أو توقع عواقبه، تماما مثلما فتحنا الاجتهاد في المس ببنية الذرة وبنية الخلية(في الطاقة أو النباتات أو الجينوم البشري) وما خَلَّفَانِهِ من تأثيرات سلبية كبيرة على البيئة. لعل ما كان يحكم عقل الإنسان باقتحامه عالم الذرة والخلية هو التطور التكنولوجي والتقدم العلمي، لكنه لم يكن يستحضر العواقب الوخيمة على البيئة العامة والمفتوحة. وبالمماثلة، فإن المساس بخلية المجتمع والتلاعب بوظيفة مكوناتها، وتغيير أدوارها بدعوى مواكبة التطور والتقدم، سيكون له نفس العواقب الوخيمة على الجينوم الاجتماعي والبيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. سنكون إذن أمام نظام اجتماعي جديد لا يؤمن بالقطعيات، أو بالأحرى سيصبح إيمانه القطعي هو رفض القطعيات أو المسلَّمات، ومن ثم فإننا سنكون بالمفهوم العلمي للكلمة قد ودعنا نظام الدين إلى نظام اللادين، إذ كما قلنا سابقا "لا دين بدون قطعيات" ولا أمن روحي بدون ثوابت إيمانية ولا دين بدون إيمان! إن نسف فكرة النصوص القطعية في المعاملات الأسرية هو بداية الطريق لنسف كل ما هو قطعي في العبادات والمعاملات والأخلاق، لأن التنازلات تبدأ بخطوة واحدة ثم تتلوها خطوات، ولِمَ لا قد نسمع قريبا بالاجتهاد في كيفية الصلاة والصيام والحج، وقد سلك هذا المسلك بورقيبة في تونس بعدما عَلْمَنَ الأحوال الشخصية وانتقل إلى اعتبار الحجاب تخلفا وصيام رمضان عائقا أمام الإنتاج وحارب كل أشكال التدين بل سعى إلى تجفيف منابعها، وقد كانت البداية ضرب الأمن الروحي داخل الأسرة بتسفيه قطعيات الدين.

خلاصة القول، إنني أحذر تمام التحذير من التسليم بفكرة الاجتهاد في قطعيات الدين، لأنني من منطلق عواقبي concequoncialiste، وباستحضار البيئة الإستبدادية التي نعيش فيها وما تنتجه من فقر وأمية وبطالة وهشاشة وتهميش...، قد نندم ندما شديدا على نسف الأمن الروحي لأفراد المجتمع، وسيتحلل كل الأفراد من الوازع الإيماني والدافع الديني كما يتحلل الحاج من إحرامه، وستعيش الأسرة حالة من الفوضى الوظائفية، مما يُدخِلُ المجتمع حالة من chaos أي الفوضى العارمة، تماما كما تنفلت الإلكترونات من محور النواة عندما تفقد النواة القوة الكافية لتجعل الإلكترونات تدور في فلكها وهو ما قد يدفع إلى انفجار ذري اجتماعي أمام غياب قوة وسلطة الدين المتمثلة فى ثوابته وقطعياته.

إنني هنا لا أتحدث عن المرأة أو عن الرجل أو عن الطفل أو عن الطفلة أو عن الزوجة أو عن الأم أو عن الأخت...، إنما أتحدث دفاعا عن الأسرة باعتبارها نواة المجتمع وباعتبارها الجينوم الاجتماعي الذي يعتبر المساس ببنيته ووظائفه تغييرا لشكل وجوهر المجتمع، فهل مثقفونا أصحاب النظريات الإستشرافية واعون بخطورة المساس بالأسرة في ظل بيئة الاستبداد، إن هذا المساس اليوم، يشبه عملية جراحية لاستئصال سرطان في قلب مريض وسط مطرح عمومي أي مزبلة كبيرة كل محيطها ملوث، فمهما بلغت حداقة الجراح واجتهاده فإن مجرد فتح هذا الجسد في مكان موبوء سيعرضه إلى المزيد من الأمراض قد تعجل بموته. إن واجبنا الآن هو القضاء على المطرح أو المزبلة التي ترمز إلى الاستبداد، بعدها لا ضير في أن نفتح كل الأوراش لأن الدولة حينذاك ستكون ضامنة للتوزيع العادل في الثروات، وضامنة للمساواة بين المواطنين والمواطنات، وحاضنة للأسرة ماديا ومعنويا، ومسؤولة عن حماية الأسرة فردا فردا بكل إمكاناتها الكبيرة، ويكفينا مثلا أن نستغرب كيف لدولة طالما كتبت في مهنة ربة البيت "لا شيء Néant" أن تطالب الزوج الذي قد لا يترك ما يسدد به ديونه بعد الموت بمكافأة زوجته على عملها العظيم الذي تقدمه في البيت، فلماذا لا يجتهد فقهاء القانون ويقدرون أن عمل المرأة في البيت يساوي موظفة سلم 11 أو خارج السلم، فتعطيها الدولة راتبا من ضرائب وثروات الشعب لأنها تربي الأجيال الصاعدة وتضمن للمجتمع استقراره الاجتماعي والنفسي، وقس على كل القضايا الأخرى التي على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها الكاملة تجاه مواطنيها عوض إسراف وتبذير ملايير الدراهم في مشاريع وتنظيم تظاهرات تافهة. بعبارة أوضح واجب الوقت هو تقويض قطعيات ومسلمات الاستبداد والفساد التي تحول دون إيجاد بيئة سياسية واجتماعية صالحة للأسرة، أما قطعيات الدين فيكفيها أنها أمَّنَتْ وستُأمِّنُ الأمن الروحي والأمن الاجتماعي الذي نحن في أمس الحاجة إليه في غياب الأمن السياسي والأمن الاقتصادي.

أرجو أختي المثقفة، أخي المثقف أن أكون قد وفقت في تبليغك أن القطعيات الدينية هي بمثابة المسلمات العلمية، وأن المسلمين لن يقبلوا البتة قواعد اجتماعية جديدة أو نظام اجتماعي جديد يقوم على قطعيات جديدة تمليها علينا الأمم المتحدة من خلال اتفاقية سيداو المشؤومة!

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك