فهـــد الباهـــي من إيطاليا
يظل الطفل قابعا في مكانه لساعات طويلة ولا يتحرك، يضع مرفقيه على ركبتيه ويديه على خديه يراقب شابين من شباب الحومة، يترقبهما بدقة ويتتبع جميع حركاتهما وهما يقارعان قنينة الخمر “الروج بولبادر”، المرشوم عليها رجل تحيط به أكوام عنب ويحمل في يده كأس خمرة يضعه على فمه وهو عار تماما...
“السكايري” يقول لصاحبه : “غنبقاو متبعين هاد المسخوط حتى غيعرينا بحالو” وتتعالى ضحكاتهما، الطفل يجول بعينيه الصغيرتين في كل الجهات خائف من أن يأتي أحد أطفال الحومة ليشاركه غنيمته، لحظات وترتكزا عينيه على “القرعة وقتاش تخوا” ويعد اللحظات ثانية بأخرى، متى تنتهي القنينة ليطلبها منهم أو يعطونها له هدية، صدقة، “يدبرو عليه”، المهم أن يحصل عليها ليبيعها لـ”مول النخالة”، فهي الحل لما يبتغي.
تنتهي قنينة الخمر، “السكايرية حنان” رغم أنهم فاقدين للعقل لم يفقدوا الإحساس، يعطون الطفل “الخاوية” فيتأبطها تحت ذراعيه ويخبئها تحت قميصه ويجري بسرعة قاصدا مول “النخالة”، يدخل عليه في دكانه الممتلئ برائحة علف الخيول “الميلاص” وغبرة الشعير والفول والخبز الكارم، يسلم الطفل القنينة إلى البائع “النخاخلي”، يدخل الأخير يده في القراب ويخرج عشرين فرنك صفراء تميل إلى السواد من علك يديه وهو يخلط علف الخيول ويتفحصها جيدا تحت نور “الفتاشة” ليتحقق من القطعة النقدية جيدا، مخافة أن يعطي الطفل أكثر من ثمنها(درهم)، ثم يسلمها للطفل.
الأن الطفل حصل على حلوة تصلح للعب والأكل، يتجه إلى الحانوتي ويعطيه العشرة فرنك “جوج دريال” ويوفر الباقي..يختار لونه المفظل، “حلوة الفرفارة” المصنوعة من الجبص أو الطحين لا يعلم، المهم كان مذاقها سكر، صفراء وحمراء وردية، ليمونية…، “حلوة الفرفارة” مستطيلة فيها ثقبتان متوازيتان صغيرتان، يعطيك الحانوتي معها خيطا طوله حوالي “60 سنتيم” تدخله بشكل متوازي في الثقبتين وتربط الخيط في تلاقي من الجهة الأخرى، تدخل سبابتي يديك اليمنى واليسرى، تلصق أصبعيك تتدلى الحلوة وهي عالقة في الخيط، تم تنثر بقوة
متوسطة في إتجاهين متعاكسين “وكتبدا حلوة الفرفارة كدور” إلى الوراء والأمام وتحدث صوتا كصوت النحل “زن زن زن” وكلما أسرعت بقوة كلما زادت سرعة الصوت ودورانها. يعطيها الطفل لقرينه ليلعب بها قليلا، ثم يستعيدها مالكها ويطويها ويدخلها في جيب سرواله “القرطيط” أو يمسكها في يده، أو يعلقها في صدره تحت قميصه يخبؤها حفاظا عليها من التلف، وربما يلعب مقابلة كرة قدم أو يشارك في سباق الجري مع أقرانه و”حلوة الفرفارة” مخبأة في صدره، إلى أن يعود إلى البيت وهو يتصبب عرقا وينام دون غسل رجليه و”حلوة الفرفارة” مخبأة في صدره لا تفارقه، تصبح جزءا من جسده النحيل.
يستيقظ في الصباح للذهاب إلى المدرسة، يُخرج “حلوة الفرفارة” المخبأة في صدره، ويعيدها بين أنامله المرتعشة بالبرد، يعيد تركيب خيوطها في سبابته، ويأخذها مؤنسته في طريقه إلى المدرسة، وهو يستمتع بأنغامها “زن زن زن”..
بمجرد ما يصل المدرسة، يدخل الصف لتحية العلم مع باقي التلاميذ، ويطويها “ويلمها” في مقلمته مع الأقلام والممحاة..
يدق جرس الإستراحة، يخرج إلى الساحة، يتسلل الطفل وراء الأقسام ويُخرج “حلوة الفرفارة” المخبأة في مقلمته المخبأة مع منجرته وممحاته وأقلامه لتظل نصب أعينه طوال الوقت، ويبدأ اللعب بها وهو محترس من أن يراه المعلم وحارس الساحة، تبدأ “حلوة الفرفارة” بالتفتت، تم تتكسر، ويأكل نصفها ويوزع قطعها الأخرى جزيئات على باقي زملائه، ويحتفظ بالخيط في ذاكرته كباقي الخيوط التي نسجتها الحياة له مع “حلوة الفرفارة” حتى الكبر.
اليوم تصنع حلوة كبيرة دائرية عالية منمقة بالكريم والفراولة والموز والجوز الهندي والكاكاو والشكلاطة…، والنجوم والمصابيح المضيئة المختلفة الألوان، وجوق موسيقي يعزف في صالة كبيرة…، ومبالغ كبيرة وخيالية تُصرف لشراء لحظات الفرح، لكنها لا تضاهي فرحة “حلوة الفرفارة”، ليس للفرحة ثمن .
كان حلم الطفل لشراء ”حلوة الفرفارة” سيتوقف ، فقط ، إذا ما تحطّمت قنينة الخمر الفارغة بين أقدام السكارى! .
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك