مغربنا 1 المغرب
منذ إعلان كل من الامارات والبحرين والسودان والمغرب حديثا تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لم نلحظ ردود فعل شعبية قوية رافضة لهذا الحدث من طرف شعوب دول شمال افريقيا والشرق الأوسط، وخاصة المغاربة، وذلك عكس ما كان متوقعا.. إذ ما تم تسجيله من مواقف مستنكرة ومنددة لهذا الحدث، محسوبة في أغلبها على تيارات دينية أو إيديولوجية اتسمت مواقفها تاريخيا بالعداء لإسرائيل واليهودية، في حين انقسمت أغلبية مواقف هذه الشعوب بين "اللامبالاة"، أو التبريك أو التدبدب في بناء موقف صريح ايجابي أو سلبي.
هذه التحولات في الموقف اتجاه قضية التطبيع والتقارب مع إسرائيل، بعد أن شكلت أحد الطابوهات العربية والإسلامية طيلة العقود الماضية، بل ومسببا للتخوين والتشكيك في الولاء للقضية الفلسطينية والقرارات الرسمية لدول المنطقة، أصبحت اليوم شبه متجاوزة، مما يطرح سؤال مدى قوة حضور القضية الفلسطينية اليوم، ومسألة التطبيع، كقضية أساسية ضمن الوعي المجتمعي السياسي المغربي والعربي، ومدى التزام هذه الشعوب بالقضايا العربية/الإسلامية في مقابل قضاياها الوطنية؟.
من الأكيد أن هناك عوامل وشروط متعددة قد ساهمت في بناء هذا التحول في المواقف المجتمعية لشعوب المنطقة، بل وساعدت أيضا على تسريع وتيرة التطبيع العربي-الإسرائيلي، على الأقل من الناحية المجتمعية، أو كرست لما يمكن تسميته بـ "اللامبالاة للقضايا العربية/الإسلامية"، وهو بحد ذاته موقف سياسي ومجتمعي، اتجاه قضايا كانت حاضرة ضمن نشاطه السياسي والإنساني، إلا ان التحول عنها يسائلنا اليوم، عن الشروط الممكنة التي أسهمت في تحويل الموقف المجتمعي؟ أو على الأقل قد ساهمت في خلق نوع من الحياد الموقفي أو اللامبالاة اتجاه قضايا كانت تعتبر مصيرية إلى حدود الأمس القريب.
وكمحاولة للإجابة على هذا السؤال يمكن الإكتفاء بخمسة شروط وعوامل أساسية، أعتقد أنها لعبت دورا في بناء هذا التحول في الموقف المجتمعي، وهي كالتالي :
الشرط الأول يرتبط بالتحولات البنيوية على الصعيد السياسي والتي رافقت الداخل الفلسطيني منذ آخر انتخابات تشريعية في سنة 2005، وكرست للإنقسام الفلسطيني ومنه الإنقسام العربي اتجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، الأمر الذي أضعف القضية الفلسطينية، وأفقد قيادتها الشرعية السياسة للدفاع عن حقوق الفلسطينيين داخليا في اطار المفاوضات مع إسرائيل، كما وأفقدها ثقة المانحين دوليا. الأمر الذي ساهم أخيرا في إعادة قراءة المشهد الفلسطيني على ضوء حالة الإنقسام، ومعه بداية التأسيس لبناء مواقف جديدة من قبل الفاعل الرسمي العربي خصوصا، تكون أكثر عقلانية وتتناسب مع الوقائع على الأرض، ومفادها الاقتناع بحل الدولتين وتأسيس مسار يؤَمِن للفلسطينيين دولتهم، مقابل إنهاء حالة العداء التاريخي بين الدول العربية وإسرائيل.
أما الثاني هو أفول حركات الإسلام السياسي الفاعل الرئيسي في "تأجيج التدافع" المجتمعي اتجاه القضية الفلسطينية، باعتبارها قضية دينية لا تختلف عن القضايا الوطنية الداخلية ولا تتناقض معها، فساهمت وبشكل مكثف، في تأطير الشعوب وتجديد دماء الانتماء الديني للقضية الفلسطينية وإدكاء ثقافة التخوين وحرمة التطبيع اتجاه إسرائيل على مر عقود من عملها الدعوي والمجتمعي، وبعد أفولها السياسي، إنحصر دور الإسلاميين سياسيا ومجتمعيا، سواء عبر الحظر السياسي كما هو الحال في مصر، أو محاولة النأي عن القضايا الخارجية كحالة تونس والمغرب، كمحاولة لتأكيد إرتباطهم بالهوية الوطنية وإنشغالهم بقضاياها الداخلية والمصيرية، شأنهم شأن باقي الأحزاب والتيارات السياسية في البلاد، الأمر الذي أضعف قوتهم التأطيرية، وأيضا طرحهم الدعوي/الإشعاعي بخصوص القضايا العربية/الإسلامية.
أما التالث هو تأثير حركات التطرف الديني اتجاه تمثلات ومواقف المجتمعات العربية وخاصة منها فئة الشباب اتجاه القضايا ذات الحساسية الدينية أو تكريس العداء ضد الآخر بناء على المعتقد والدين، فصعود تلك التيارات العنفية، خاصة النموذج "الداعشي" ابتداء من سنة 2014 في الأراضي السورية والعراقية، أحدث صدمة رهيبة في نفوس مجتمعات المنطقة، وأيضا الخوف لما يمكن للتيارات الدينية المتطرفة، والتي حملت السلاح باسم الدين وإعلان الخلافة الإسلامية، أن تلعبه من دور في تأجيج الصراع الديني والمذهبي، وممارسة العنف ضد الآخر المختلف دينيا وسياسيا.
أما الشرط الرابع، فيتمثل في إنحصار الاهتمام بالقضايا الأممية/العربية والإسلامية، مقابل القضايا الوطنية الداخلية، وهو ما شهدناه مثلا في المغرب، من حيث الإحتفال الشعبي بالقرار الأمريكي الإعتراف بالصحراء المغربية، واعتبارها على سلم الأولويات، تليها بقية القضايا الدولية والإنسانية. ما يفيد أن تعزيز مفهوم الهوية الوطنية مقابل الهوية العربية/الإسلامية، قد بدأ يخلق نوعا من القوة للإنتماء الهوياتي الوطني المحلي، مقابل خفوت بقية الهويات الممتدة والعابرة لحود الأوطان القطرية.
والشرط الخامس والأخير، يتمثل في تراجع الإعلام العربي في لعب دور تأجيجي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، من خلال تحوله في نقل وجهة النظر الفلسطينية لوحدها باعتبارها الحقيقة وراء الصراع مع إسرائيل، إلى فتح المجال أكثر لوجهات النظر الإسرائيلية، واستضافة قادة عسكرييين ومحللين وباحثين وسياسيين من الداخل الإسرائيلي، وهو ما ساعد أكثر على تعميق المعرفة بالنظرة الإسرائيلية للصراع، وبداية الانسلاخ أيضا من وجهات النظر "الراديكالية" خاصة تلك التي تتبناها حركات المقاومة كحماس والجهاد الإسلامي.
وعلى الرغم مما أسهمت به هذه الشروط والعوامل في تحولات بناء المواقف والتمثلات الشعبية إتجاه مسألة التطبيع، إلا أنه لا يمكن الجزم بموت التعاطف الشعبي والإيمان بالقضية الفلسطينية وتجاوز حقوق إمتلاك الأرض والتسليم ب"يهودية القدس"، فعامل التحول هنا مرتبط أساسا بغياب المرجعية المؤسساتية المؤطرة للقضايا العربية والإنسانية، ووجودها هو بالأكيد عودة لحضور هذه القضايا ضمن الوعي السياسي والهوياتي لشعوب المنطقة، مما يبرز هشاشة هذا التحول الوقتي إلى لحظة بروز إطار تنظيمي وتأطيري أقوى مما مارسته الحركات الإسلامية أو أجهزة الإعلام العربية، وغيرهما من المؤسسات التأطيرية الأخرى.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك