مغربنا 1 المغرب
قبل شهرين، حضرت ندوة في جامعة سيول الوطنية، لازلت لا أصدق أنها حدث حقيقي حصل على أرض الواقع، وليس حلما رأيته في المنام.
كان موضوع الندوة : إرساء فلسفة اجتماعية لتطوير اللغة العمومية.
شارك في الندوة 9 من كبار المتخصصين في المجالات الاجتماعية واللغوية، جاؤوا من جامعات كورية و جامعة سينغفورية و جامعة أوتا الأمريكية.
و ما هي الإشكالية التي جاؤوا لمناقشتها ؟
إسمعوا جيدا نص الإشكالية : "التلوث اللغوي" في المجال العام، الذي يترتب عن إدخال كلمات أجنبية، تتسبب في أضرار كبيرة "لفكرة الديمقراطية الجمهورية"، و تمكن النخبة من المزيد من "السيطرة"، و ما هي الجهود التي يجب أن تقوم بها الدولة الكورية والمجتمع لجعل اللغة المستخدمة في المجال العام تخدم "المصلحة العامة" للشعب؟
الآن، بعد أن سمعتم الإشكالية، يجب أن تعرفوا ردة فعل كل أجنبي في كوريا عند سماعها.
إنها ببساطة: أن يمسك من بطنه و يتقلب على الأرض من الضحك!!
لماذا؟
لأن كل أجنبي، في كوريا، لا يعاني من شيء قدر معاناته من خلو البلاد شبه التام من استخدام اللغات الأجنبية.
في كوريا، الفواتير بالكورية، عقود الإجار بالكورية، عقود العمل بالكورية، الإعلانات بالكورية، ملصقات مكونات المنتجات الغذائية بالكورية، الحواسيب بالكورية، تطبيقات الهاتف بالكورية، رسائل شركات الاتصالات بالكورية، سائقوا سيارات الأجرة يتحدثون الكورية فقط، موظفوا الأبناك يتحدثون الكورية فقط، الأطباء يتحدثون الكورية فقط، مدراء المبيعات في الشركات يتحدثون الكورية فقط، الشرطة يتحدثون الكورية فقط، كل شيء في البلاد، باللغة الكورية حصريا، باستثناءات قليلة..
و لهذا السبب، يوجد فرع واحد لكل بنك تقريبا مخصص للأجانب، و يوجد عادة في الحي الأكثر كثافة بالأجانب، و توجد مصحات "صديقة للأجانب" لأن فيها طبيب أو طبيبان يتحدثون الإنجليزية، و يوجد رقم هاتف مخصص للأجانب، للترجمة، فإذا أردت أن تتصل بإدارة أو شركة، تتصل بذلك الرقم أولا، ثم يتصل على الرقم الذي تريد الحديث معه، و تفتح محادثة ثلاثية، يقوم فيها المترجم بدور الوسيط اللغوي.
و لهذا كل أجنبي يسمع موضوع هذه الندوة، يتساءل متعجبا : بربكم أين هي هذه الكلمات الأجنبية التي تلوث المجال اللغوي الكوري ؟!!!!
المداخلة الأولى، كانت للبروفيسور لي جونغ بوم، رئيس مؤسسة التضامن لأجل اللغة الكورية، و كان عنوانها : (( اللغة العمومية و حقوق الإنسان )).
انتقد لي جونغ بوم المؤسسات الرسمية التي تساهم في "تخريب اللغة العمومية"، و أعطى مثالا، و هو الحملة التي أطلقتها بلدية جزيرة جيجو (التي يعتمد اقتصادها على السياحة) للاحتفاء برجال الإنقاذ و توزيع الجوائز على أحسنهم أداءً في إنقاذ المصابين بالنوبات القلبية، و كان عنوان الحملة : Heart Saver (منقذ القلوب بالإنجليزية).
و على نفس النمط، أطلقت حملتان بعنوان Brain Saver (منقذ الدماغ) و Trauma Saver (منقذ الصدمة) للأحسن أداءً في إنقاذ الناس من الجلطات الدماغية و الصدمات النفسية.
قال جونغ بوم، أن المشكلة في هذه العناوين الإنجليزية، أن عددا قليلا فقط من سكان الجزيرة سوف يفهمونها، أما بالنسبة لعموم الناس، فهي كلمات بدون معنى.
ثم قال: إن هذا مثال صارخ "للخنوع" للغة الإنجليزية!!
و ذكر مثالا آخر، تلك اللوحة التي نصبت عند محطة قطار في إحدى المدن الصغيرة، و كتب عليها Kiss and Ride (قبل و اركب القطار) -و يقصد بها أنه المكان الذي يتوادع فيه الناس مع أحبابهم قبل السفر-. و قال بأنه حتى الأشخاص الذين لديهم إلمام لا بأس به بالإنجليزية، "عانوا" لفهم الرسالة من تلك الجملة. و بعدما اشتكى كثير من المواطنين من تلك اللوحة "الغامضة"، قامت البلدية بتغييرها إلى اللغة الكورية.
و قال: "و هناك أمثلة أسوأ بكثير"، مثل تلك اللوحات التي وضعت أمام 10000 مدرسة، و كتب عليها Green Food Zone (منطقة طعام خضراء) و يقصد بها طمأنة تلاميذ المدارس من أن الأكل الذي يباع في تلك المنطقة تمت مراقبته بصرامة من طرف البلدية.
و رغم شكاوى المواطنين، لم تستطع البلديات تغييرها لعددها الكبير و وكلفتها العالية.
و قال أن اللغة "سلطة غير مادية"، لا يجب أن تبقى خارج سيطرة و إدارة الشعب، و إلا فإن اللغة التي يفترض أنها تمكن الناس من "التعبير" سوف تتحول إلى "كمامة" تكمم أفواههم.
ثم ختم مداخلته بكلمات عميقة: أولائك الأشخاص الذين يقولون بأنه لا يجب على الدولة أن تتدخل في "اللغة العمومية"، هم أكثر الأشخاص الذين يحاولون "احتكار اللغة العمومية" لصالحهم.
و قال: إن انتشار كلمات أجنبية هنا و هناك، يهدد "الحق في المعرفة"، الذي يعتبر حقا أساسيا لجميع المواطنين.
المداخلة الثانية، قدمها البروفيسور جانغ أونجو، و كان عنوانها : كيف يجب أن تكون اللغة العمومية في دولة ديمقراطية؟
تحدث جانغ أونجو عن المفاهيم الأولية للحرية و الديمقراطية، و حكم القانون و ليس حكم الأشخاص، و ذهب يغوص في المفاهيم الكونفوشوسية و اليونانية، و انتهى إلى أن الديمقراطية تقتضي مشاركة جميع المواطنين في صناعتها، و هذا يتطلب أن تكون "الطريق مفتوحة للطبقات الدنيا للوصول للمشاركة في السلطة".
و خلص إلى أن : النخبة، تستخدم "اللغة كأداة للسيطرة" و التحكم في السياسة و المجتمع، من خلال صناعة نظام يعطي للأشخاص الذين يتحدثون لغات أجنبية "النفوذ في المجال العام".
و قال: وهذا الوضع سيؤدي إلى جعل اللغة الإنجليزية أو غيرها، هي الأصل، و اللغة الكورية سيتم تهميشها لتتحول إلى "لهجة دنيا".
ثم قال: و هذا سيحول جمهوريتنا الديمقراطية إلى ضل جمهورية و ضل ديمقراطية.
المداخلة الثالثة : قدمها البروفيسور جونغ تيسوك، و عنوانها : الرأسمال الثقافي.
استعار جونغ مفهوم "الرأسمال الثقافي" من عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديوه، و قال بأن اللغة هي شكل من أشكال الرأسمال، الذي يمكن أن يفاقم الهوة بين "الطبقات الاجتماعية"، و أنه لا يمكن توزيع هذه "الثروة" بعدالة بين أفراد المجتمع، إذا كانت تعتمد مفردات أجنبية، لا يفهمها عموم المواطنين.
و بالمقابل، فإن اعتماد لغة يفهمها كل المواطنون، سيساعد على ردم الهوة بين الطبقات الاجتماعية.
المداخلة الرابعة : قدمها البروفيسور بارك سونغ يول، و عنوانها : اللغة و الصراع السياسي.
قال بارك، أن اللغة العمومية، هي أكثر المجالات التي تشهد أشرس "الصراعات السياسية"، لكنها صراعات "غير مرئية"، لأنها صراعات غير مادية، و قال أن اللغة لا تقف موقفا "محايدا" تجاه السياسة، فهي إما أن تقف إلى جانب أكثر أفراد المجتمع خصاصة، و إما أن تساند أصحاب السلطة و النفوذ و تمكنهم أكثر.
و توالت المداخلات، و النقاشات، و سمعت مفاهيم لأول مرة، من قبيل "The Abuse of Foreign language" (إعتداء اللغة الأجنبية)..
دامت الندوة 7 ساعات، كأن الخطب جلل، و جلست أتساءل: يا ترى هل يعقل أن تجري هذه الندوة في كوريا التي تكاد تنعدم فيها اللغة الأجنبية، بدل أن تجري في المغرب الذي تعتبر فيه الفرنسية شرطا أساسيا للنجاح الدراسي و المهني؟ أو في قطر او الإمارات التي أصبحت فيهما اللغة العربية كأنها كلب أجرب؟ لا أحد يريد الاقتراب منها؟
و تذكرت يوم ذهبت لأعمل على مشروع لمؤسسة عربية كبيرة، هي الأكبر في مجالها، و كانت مضت علي ثمان سنوات تقريبا لم أعمل في بيئة عربية، و حيث أن تلك المؤسسة يفترض أنها "تسوق" اللغة العربية، و حيث أني تعودت على الحديث بالعربية الفصحى، إذ كان أبي رحمه الله يكلمنا في البيت بلغة أقرب للفصحى منها إلى الدارجة المغربية.. فإذ بي حين بدأت أكلم الزملاء في تلك المؤسسة، بدأوا يستغربون و يتعجبون .. فقال لي أحدهم : خذ راحتك، إذا تكلمت بالدارجة سوف أفهمك، و سألتني إحداهن باستغراب : لماذا تتحدث بالفصحى ؟! فتصورت نفسي كشخصية جاءت من فيلم عربي تاريخي !!
و بالمقابل، وجدت جلهم يتسابق للحديث بالإنجليزية.. و يا ليتها كانت إنجليزية سليمة.. و إنما جلها إنجليزية مفخخة !!
هذه إذن كانت هديتي لكم بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية .. من كوريا الجنوبية .
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك