الإسلام_الفرنسي_وتعزيز_قيم_الجمهورية

الإسلام_الفرنسي_وتعزيز_قيم_الجمهورية
... رأي / الجمعة 01 نوفمبر 2024 12:29:03 / لا توجد تعليقات:

مغربنا 1 المغرب 
يبدوا أن الحكومة الفرنسية عازمة على وضع ترسانة قانونية وتشكيل بنية مؤسساتية، بغية محاربة التطرف العنيف بالبلد، فمشروع قانون "تعزيز قيم الجمهورية" وحسب تصريحات الرئيس الفرنسي والمسؤولين الحكوميين، هو مسعى رسمي لمحاربة ما اصطلح عليه "الانعزالية الإسلاموية" - حتى وإن تفادى هذه العبارة- ما يؤكد أن فرنسا اليوم حريصة على اجثتات التطرف الديني العنيف من منابعه، عبر "رؤية استراتيجية" تستهدف إعادة إدماج المسلمين الفرنسيين ضمن "قيم الجمهورية" وفق ما يمكن أن نصطلح عليه "الإسلام الفرنسي".
ويحمل مشروع القانون الفرنسي الجديد، عددا من النقاط التي تشكل عناصر مشجعة في محاربة التطرف، ومنها مراقبة دور العبادة روحيا وماليا، والحرص على محاربة الإنعزالية التمدرسية، عبر منع التعليم المنزلي ابتداء من سن الثالثة إلا في ظروف استتنائية، وأيضا حماية المساجد من سيطرة المتطرفين والمتشددين، أو من تبث في حقهم الإذانة بالتحريض على أفعال إرهابية أو التحريض على التمييز أو الكراهية أو العنف. في أفق تشكيل مجلس للأئمة، والتي من مهامه تعيين الأئمة وعزلهم، ما سيسمح بالإستغناء عن مئات الأئمة التابعين لدول مثل تركيا والمغرب وغيرها، أو المحسوبين على تنظيمات وحركات إسلامية.
وهو ما يدل على عزم الفاعل الرسمي الفرسي، لتجاوز قانون 1905، والذي حددت مواده الفصل بين الكنيسة والدولة، دون تدخل هذه الأخيرة في الشؤون الدينية للمؤسسات والأفراد. ما مكن المؤسسات الدينية وعلى اختلاف عقائدها، الإستفادة من إمتيازات الحرية الدينية. ومنها دور العبادة والمراكز الدينية الإسلامية، والتي تنقسم بين مؤسسات تابعة لحكومات رسمية أو أفراد/شيوخ أو جماعات/حركات دينية، والتي وصل تعدادها بحسب إحصاء وزارة الداخلية الفرنسية لسنة 2014، حوالي 2368 دورا للعبادة الإسلامية.
هذه الوفرة المؤسساتية لدور العبادة الإسلامية بفرنسا، مكنت التيارات "الجهادية" والمتطرفة، من إستغلال عدد من هذه المراكز للترويج لأطروحاتها المتطرفة والعنفية، عبر تأجيج المشاعر الدينية، مع وجود رقابة حكومية وأمنية ضعيفة، إحتراما لروح القانون الفاصل بين الشأن الديني والحكومي. وهو ما نلحظه متجاوزا اليوم لحظة المصادقة على القانون الجديد، والذي سيمكن الحكومة الفرنسية، من التدخل في المؤسسات الدينية.
وبالتالي يمكن لمشروع القانون هذا، ان هو طبق بالطريقة التي سوق بها إعلاميا، أن يعد "إصلاحا" جذريا للمؤسسات الدينية الإسلامية بفرنسا، فالرقابة على المساجد، لا يمكن أن يفهم منه تضييقا على المسلمين بقدر ما هو حماية للمسلمين أنفسهم، من التورط ضمن المشاريع العنفية، وأيضا لحماية مساجدهم من سيطرة التيارات الجهادية والعنفية عليها، وتحويلها إلى مراكز تجنيد واستقطاب، عوض مهامها الأساسية والمتمثلة في إشعاع البعد الروحي وأداء الطقوس الدينية، والحث على قيم التسامح والتعايش مع الآخر.
وأكيد أن تشكيل مجلس الأئمة يمكن اعتباره "وزارة أوقاف وشؤون دينية فرنسية"، وهو كشأن كافة وزارات الأوقاف بالعالم العربي والإسلامي، والتي اجتهدت في السنوات الأخيرة، على وضع خطط إصلاحية للشأن الديني، ومنها المؤسسات الدينية التعليمية والتعبدية. سواء عبر منع خطابات الكراهية، أو التحريض على العنف الديني، أو تبرير الأعمال الإرهابية. وما تجربة المغرب في تكوين الأئمة وتسويقها أوروبيا وافريقيا غير بعيدة عن هذا الأمر. ما يجعل الخطوة الفرنسية تنحوا أيضا ضمن نفس المسار الإصلاحي.
هذا على صعيد الإصلاح الديني المؤسساتي، والتي وحسب مشروع القانون، ينظر إليه بأن المدخل الأساسي لمحاربة التطرف العنيف، وكأن مصدر الإرهاب هو فقط المؤسسات الدينية، في حين أن اي مشتغل على ظاهرة التطرف الديني، ناهيك عن دولة بحجم فرنسا، يعلمون بأن مداخل محاربة الإرهاب متعددة، منها أمني ومنها إصلاح ديني وأيضا جانب اقتصادي وتنموي، فضلا عن تعزيز بناء الثقة ومحاربة التمييز والعنصرية وهو البعد الرابع الذي يعد حضوره ضمن النموذج الفرنسي واجب لعدد من الاعتبارات سيتم ذكرها لاحقا. فهل يمكن لمشروع القانون هذا لوحده تحقيق أثر عملي في محاربة التطرف الديني العنيف بفرنسا؟ وما الذي يقوي إحتمالية التهديد الأمني بفرنسا؟ هل هي المؤسسات الدينية أم وجود عوامل خارجية أيضا؟.
بغية الإجابة على هذه التسائلات، وددت مشاركة حدث مرتبط بدعوة تلقيتها من السفارة الكندية بالرباط، في شهر يوليوز 2018، بغرض مناقشتي لورقة بحثية نشرتها في نفس الفترة حول "الجهاديين المغاربة". وتركزت أسئلة مسؤولي السفارة في حينه حول "التهديد الأمني المحتمل" الذي قد يشكله المهاجرون المغاربة في كندا.وقد تجاوبت مع هذه الأسئلة، بشكل منفتح وصريح، معتمدا على فكرة أساسية مفادها، ضعف إحتمالية التهديد الأمني من طرف المهاجرين المغاربة بكندا في الوقت الراهن على الأقل، معتمدا في ذلك على عدد من المؤشرات التحليلية.
في نفس الوقت، حاولت تقديم لمحة عن الفروقات التي تشكل نوعا من المفاصلة الخصائصية بين المهاجرين المغاربة بأوروبا ونظرائهم بكندا والولايات المتحدة الأمريكية. الأمر الذي لاقا ردود فعل مشجعة من طرف المسؤولين بالسفارة. وجعلني أستذكر هذا اللقاء بغية اضافة سؤال أخر مرتبط بالعوامل التي تضعف إحتمالية التهديد الأمني للمهاجرين بدولة مثل كندا، وتقوي احتمالية هذا التهديد في فرنسا؟
إن تفسيري للأمر، يعتمد على رؤية منفتحة غير محدودة بالمؤسسات الدينية فقطـ، أو البنية الثقافية الإسلامية التي قد تشكل بناء اجتماعيا يتغذى عليه المسلمين في فرنسا ضمن مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وعلى رأسها الأسرة بما تحمله من حمولات دينية وعرفية وثقافية، وهو ما يشكل تقاطعا مع المهاجرين أيضا في كندا، من حيث التلقي من نفس الوعاء الديني، مع وجود إحتمالية أضعف من نظرائهم بفرنسا نحو الفعل الإرهابي، ما يعني وجود نوع من المفاصلة الخصائصية بين المهاجرين بفرنسا ونظرائهم بكندا، والتي يمكن أن تكون مدخلا لفهم أعمق للظاهرة الإرهابية بفرنسا، وهي تعتمد على ثلاثة مؤشرات كالتالي :
الاول : المهاجرين نحو أمريكا الشمالية عموما، وكندا خصوصا، مؤهلين أكثر من الناحية التعليمية والمهنية، بتوفرهم على خبرات معرفية ومهارات عملية وحاصلين على دبلومات وشهادات عليا، تجعل من هجرتهم رغبة في ايجاد مستقبل أفضل، وهو ما توفره أيضا كندا عبر فتحها الباب أمام المهاجرين، من أجل الاندماج التام في سوق العمل، والانخراط ضمن مؤسساتها المهنية والأكاديمية وغيرها، ما يمكن من سهولة الاندماج الاقتصادي ثم الثقافي، خاصة وأن هدفهم الوحيد هو تحقيق الذات عبر ما يتوفرون عليه من مؤهلات.
الثاني : باعتبار أن المهاجرين نحو أمريكا الشمالية، ينتمي أغلبهم إلى الجيل الأول من المهاجرين، لم يشكل وجودهم أي تحدي/شتات هوياتي بين البلد الأصل والبلد المستقبل، وهو الأمر الذي لا ينطبق على أبناء المهاجرين في فرنسا من الأجيال اللاحقة، والذي سبق لي الإشارة في مقال سابق على هسبريس القول، بأنهم يعيشون "غيابا مزدوجا" بتعبير عبد الملك الصياد. فروح الانتماء للوطن الأصل لازالت حاضرة، مع الإيمان بما يوفره البلد المستقبل من فرص اقتصادية وإمكانات مادية ضامنة للعيش الكريم ومستقبل أفضل للأبناء.
الثالت : نظرا لحاجة كندا للموارد البشرية وما يمكن الاصطلاح عليه بـ "هجرة الكفاءات"، فإن السوق الكندية أكثر انفتاحا على الآخر، نظرا لمساهمة المهاجرين في تطوير اقتصاد البلاد وتطورها وتقدمها، وهي بذلك أقل عنصرية من دول أوروبية كفرنسا اتجاه المهاجرين، فسوق العمل مفتوح أمام الجميع، وكذا الانخراط الاقتصادي، مع حضور أقل لأطروحة التخويف من الآخر، وضعف الإسلامفوبيا كأدلوجة يمينية ضمن المشهد الثقافي والاعلامي والسياسي. ما يجعل البلد أكثر قدرة على الاستدماج منه على إدكاء خطابات الكراهية.
الغاية من عرض هذه المؤشرات، هو القول بأن مهمة الإصلاح الديني وتعزيز الانفتاح الثقافي عبر ترسيخ قيم الجمهورية التي يحملها مشروع القانون الفرنسي الجديد، هي بادرة ايجابية تتجه ضمن مسار سليم، لكن هل يمكن لهذا المسار وحده أن يحقق أثرا عميقا على الواقع، بمعنى أن يقضي تماما على الانعزالية الاسلاموية وبذلك على ظاهرة التطرف العنيف بفرنسا؟ وجوابي على ذلك، أنه غير كاف !، لأن هذه الإنعزالية ليست دينية وثقافية فقط وإنما أيضا هي اقتصادية وسياسية. فعلى الرغم من الفروق الخصائصية بين مهاجري كندا وفرنسا، إلا أن أهم مؤشر يضعف احتمالية الفعل الارهابي هناك ويقويه هنا، هو الاستدماج الاقتصادي للمهاجرين، وهو ذو أثر أقوى من الانعزالية الدينية بحد ذاتها.
ناهيك أيضا وهو ما تظهره المؤشرات الآنفة، على ضعف أطروحة الإسلاموفوبيا، وإن كانت حاضرة ضمن المجتمع الكندي، إلا أنها محاربة داخليا من طرف الفاعل الرسمي باعتبارها مؤججا للصراع ومدكيا للكراهية والتمييز ضد فئة من السكان بسبب إنتمائهم الديني، كما لا تحظى بدعم إعلامي كبير، كما هول الحال في فرنسا، حيث إنخراط العديد من الفاعلين السياسيين الفرنسيين، ضمن هذه الأدلوجة بل ودعمها والمساهمة في نشرها.
وبالتالي، يجب أن نكون أكثر صراحة اليوم ونحن نرصد هذا السعي الرسمي من طرف فرنسا لإستدماج المسلمين من خلال "تعزيز قيم الجمهورية"، بأن تكون مداخل هذا الاستدماج متعددة، ما يعني بدل جهد مزدوج، يحمل المسؤولية للمسلمين مع نظرائهم من ذوي الأدلوجة العلمانية الاستئصالية، والساعين إلى تزكية خطاب الكراهية والاسلاموفوبيا، وهو خطاب أصبح دائم الحضور في أجهزة الإعلام المرئية والمكتوبة، ما لا يسهم في تقوية هذا الاستدماج، بل يزيد من إدكاء نيران الخلاف وتعزيز أطروحات المتشديين والمتطرفين، الذين يقتاتون أكثر على هذا النوع من الخطابات، من أجل تجييش المشاعر وسهولة الاستقطاب.
وهذا ما أكدته دراسة أنجزت من طرف IFOP ونشرت سنة 2019 في Le Parisien، ومن نتائجها أن 42% من المسلمين بفرنسا أكدوا تعرضهم لأحد أشكال التمييز ضدهم بسبب إنتمائهم الديني، وقد نشرت عدد من القنوات الفرنسية، تحقيقات عديدة، أظهرت أن حمل إسم كمحمد أو أسامة، قد يحرمك من تولي وظيفة محترمة أو كراء سكن لائق، وهو ما أكدته نفس الدراسة، حيث يتعرض واحد من كل خمسة مسلمين للتمييز بسبب دينه عند البحث عن وظيفة. وقد تم محاكاة تجارب من هذا النوع لفرنسيين من خلال تملك أسماء عربية وطلب إيجار شقق أو الاستفسار عن وظيفة، وكانت النتائج وجود تمييز واضح.
من الأكيد أن هذه الممارسات، تسهم في تعزيز الإنعزالية الثقافية والهوياتية، وإحساس بالتمييز والعنصرية، وإنعدام الثقة في اتاحة الفرصة لتحقيق الذات، وهي وقائع ناتجة عن إدكاء خطاب الإسلاموفوبيا، والذي يجب على الفاعل الفرنسي أن يجعلها ضمن أولوياته أيضا، فالمدخل الديني/التراثي لا يمكن لوحده أن يكون مدخلا لمحاربة التطرف العنيف، دون المرور بمداخل اقتصادية وأخرى تحد من خطابات التمييز والكراهية، لتحقق أخيرا إستدماجا حقيقيا، ضمن بيئة موفرة لفرص تحقيق الذات وإثباتها دون الحاجة للمرور من مداخل هوياتية قد تصرف ضمن قنوات متطرفة !.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك