أنتلجنسيا المغرب:أبو جاسر
لا يختلف اثنان، كون المغرب يعيش أوضاعا اقتصادية واجتماعية متأزمة منذ فترة ليست بالقصيرة، حيث يرى جل المتخصصين أن الأزمات المغربية انطلقت مباشرة بعد استهداف الطبقات الوسطى وبداية اضمحلالها.
اقتصاد بلا بورجوازية مواطنة..دولة تُطعم حاشية طفيلية
يُفترض أن تكون الطبقة البورجوازية الوطنية قاطرةً للنمو الاقتصادي ومحفزًا للاستثمار وخلق الثروة، لكن الواقع المغربي يبدو بعيدًا عن هذا النموذج. بدلًا من أن تتشكل لدينا بورجوازية ذات رؤية اقتصادية وطنية، نشأت في المغرب "حاشية طفيلية" تستفيد من الامتيازات الريعية والمضاربات السريعة، دون أن تساهم في الإنتاج أو التصنيع. هذا النموذج الاقتصادي خلق جيوبًا للثراء الفاحش بدون إنتاجية حقيقية، حيث أصبحت "الهمزة" (الفرص السهلة) هي القاعدة، بينما يغيب الاستثمار طويل المدى الذي يحتاجه الاقتصاد المغربي للنهوض.
ففي دول مثل ألمانيا أو اليابان، نجد أن البورجوازية تُراكم الثروات من خلال الصناعة والإنتاج والابتكار، بينما في المغرب نجد أن الثروات تُراكم عبر المضاربات العقارية، الامتيازات الريعية، وصفقات القطاع العام، مما جعل الاقتصاد هشًا وعرضة للتقلبات. هذا النموذج خلق اقتصادًا يعتمد على الامتيازات بدل المنافسة، وعلى الاحتكار بدل الابتكار.
طبقة عاملة مشتتة بين الهشاشة والتواطؤ ضد مصلحتها
على الطرف الآخر، نجد أن الطبقة العاملة التي يفترض أن تكون رافعة للنضال الاجتماعي والاقتصادي تعيش في وضعية هشاشة غير مسبوقة. العمال في المغرب لا يتمتعون بالحماية القانونية الكافية، ولا بقدرة تنظيمية تمكنهم من فرض شروط عمل لائقة. فبدل أن يكونوا كتلة متماسكة تناضل من أجل تحسين ظروف العمل، أصبح العمال يُنافسون بعضهم البعض في سوق تشغيل فوضوي، حيث يتم استغلال ضعفهم البنيوي لصالح أرباب العمل.
النقابات التي كان يُفترض أن تلعب دور الدفاع عن العمال تحولت في كثير من الأحيان إلى أدوات للمساومة والمقايضة، حيث يتم التفاوض على الحقوق العمالية كأنها أوراق ضغط سياسي بدل أن تكون حقوقًا ثابتة لا تقبل النقاش. في هذه الظروف، يصبح التغيير مستحيلاً، وتظل اليد العاملة المغربية في وضعية استغلال دائم، بدون أي إمكانية للتحرر من هذه الدائرة المغلقة.
طبقة سياسية تبيع الوهم بدل صناعة المستقبل
إذا كان هناك عامل مشترك بين الطبقات الحاكمة في المغرب، فهو غياب الطبقة السياسية الحقيقية. المفروض أن يكون الفاعل السياسي أداةً لتوجيه المجتمع نحو تطور ديمقراطي واقتصادي مستدام، إلا أن الواقع يُشير إلى أن المغرب يعيش في ظل "محترفي السياسة" الذين لا يرون في العمل السياسي سوى وسيلة للوصول إلى الامتيازات.
هذه الطبقة السياسية لا تسعى إلى إحداث التغيير، بل تعمل على تدبير الأزمة وإطالة عمرها. فالبرلمان والأحزاب السياسية لم يعودوا فضاءات لصياغة السياسات العمومية، بل تحولوا إلى واجهات لاستعراض الخطابات الاستهلاكية التي تخدم السلطة أكثر مما تخدم المواطن. أما المعارضة، فقد فقدت دورها كقوة اقتراحية، وأصبحت جزءًا من اللعبة التي لا تتغير قواعدها.
المثقف بين الاستقلالية والانبطاح لسلطة الريع
دور المثقف في أي مجتمع ديمقراطي هو تحفيز النقاش العام، وخلق وعي جماعي يقود إلى التغيير. لكن في المغرب، تحول جزء كبير من المثقفين إلى مجرد أدوات للدعاية والتبرير. نجد مثقفين وأكاديميين يتنافسون على الظهور في وسائل الإعلام لا لتقديم أفكار نقدية، بل لتبرير الوضع القائم، والبحث عن "اللغة المناسبة" لتلميع صورة السلطة.
هذا الوضع جعل الفضاء الثقافي فاقدًا للحيوية، حيث تراجع دور الجامعة، وضعف تأثير الإنتاج الفكري، وازداد تأثير مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت الفضاء الوحيد للنقاش السياسي الحقيقي، رغم أنها تظل محكومة بتوجهات شعبوية في كثير من الأحيان.
بول باسكون وإعادة فهم المجتمع المغربي
في مواجهة هذا الواقع المركب، تظل كتابات عالم الاجتماع الراحل بول باسكون من أهم الأدوات لفهم طبيعة المجتمع المغربي. وصف باسكون المغرب بأنه مجتمع "هجين"، حيث تتعايش بنيات تقليدية وحديثة في آنٍ واحد، ويتداخل الريع مع الرأسمالية، والانتماء القبلي مع الدولة الحديثة.
هذا التحليل لا يزال صالحًا اليوم، حيث يبدو أن المغرب لم يحسم بعد في خياراته الكبرى. هل هو بلد يتجه نحو بناء دولة حديثة قوامها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، أم أنه يفضل الإبقاء على الوضع القائم الذي يسمح لفئة محدودة بالاستفادة على حساب الأغلبية؟
الإجابة على هذا السؤال تتوقف على قدرة المجتمع المغربي على إعادة تشكيل طبقاته الفاعلة، وإحداث تغيير عميق في بنياته الاقتصادية والسياسية، بما يضمن إعادة توزيع عادل للثروة، وإنهاء هيمنة الفئات الطفيلية التي تعرقل أي إمكانية للتقدم.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك