مغربنا1-maghribona1 الخيارات، والرهانات يُكثَّف الراوي ما تمَّ التوافُقُ حوْله، ويَقْتضِب ما جاء في التقرير في باب المسالك المؤدية إلى تحقيق الطموح المغربي. أربعة «خيارات استراتيجية» تأخذ بعين الاعتبار المسارات السابقة، والتحديات المرتبطة بالأزمة الوبائية، وتداعياتها الآنية والمستقبلية، وخمسة «رهانات» على «وضعيات» سوف يكون عليها المغرب في أفق سنة 2035، وهي علي التوالي: «قطب مرجعي في مجال التعليم العالي والبحث العلمي»؛ «مغرب رقمي»؛ «بلد رائد في مجال الطاقة التنافسية والخضراء»؛ «قطب مالي إقليمي»؛ «صنع في المغرب».
أولاً، «خيار التحول الاقتصادي» وغايته «اقتصاد منتج ومتنوع قادر على خلق مزيد من الثروة، وفرص شغل ذات جودة»، ومن مُدخلاته: «تأمين المبادرة المقاولاتية» حتى يصل القطاع الخاص إلى 60 ٪ من إجمالي الاستثمار؛ «تنويع القدرات الإنتاجية، والارتقاء بمستوى العرض الاقتصادي»، والنهوض بالقيمة المضافة للإنتاج الوطني (صناعات إحلال الواردات، وصنع في المغرب)؛ «قطاع فلاحي يعزز السيادة الغذائية والاستدامة في بعض سلاسل الإنتاج»؛ «قطاع سياحي يستبق التطلعات الجديدة للسياح المغاربة والأجانب»؛ أخيراً وليس آخراً، «الاقتصاد الاجتماعي كدعامة للتنمية». يشكل التصنيع، مع البنيات والخدمات الأساسية من طرق، وطرق سيارة، ومطارات، وموانئ ولوجستيك، ومدارس ومستشفيات عمومية، القاعدة الارتكازية للإقلاع الاقتصادي، الشامل أو الإدماجي (inclusif). ويكتسي التصنيع، في حالة المغرب بالذات، أهمية خاصة لسببين على الأقل. الأول يتعلق بمركزية البنية الصناعية في الإنتاج، لما للصناعة من آثار جذْب للقطاعات الأخرى وتحريك لعجلة الإنتاج، ولما لها من علاقة تفاعلية مع منظومة الابتكار، والاختراع التكنولوجي، والبحث والتطوير. السبب الثاني يكمن في الآثار الاجتماعية الناجمة عن التطور الصناعي. التصنيع، فضلا عن أنه يُولِّد فرصاً للشغل ليس لها مقابل في الأنماط الإنتاجية الأخرى، فهو يؤسس للعلاقة الأَجْرية (الأَجْر مقابل العمل)، وللتحديث الاجتماعي. للقطاع العام (المؤسسات والمقاولات العمومية) دور ريادي في التحول الاقتصادي، خاصة في المجالات الاستراتيجية، والسيادية (توفير الأمن الصحي، والغذائي، والطاقة، والرقمي)، والتي تتطلب استثمارات ضخمة، ذات مردودية طويلة الأمد. وليس هناك تضاد بين القطاعين، بل تكامل، وتشارك.
ثانيا، «خيار التمكين البشري» ومقْصدُه «رأسمال بشري مدعم ومُهيَّأ بشكل أفضل للمستقبل»، يقوم على ثلاث دعامات: «نظام صحي ذو جودة، وسهل الولوج من طرف الجميع، وقادر على الصمود في وجه الأزمات الصحية في المستقبل، من خلال آليات للوقاية والإنذار بالإضافة إلى إنتاج اللقاحات والأدوية الأساسية»؛ «نظام تعليمي يركز على التعلُّمات الأساسية، ويكرس قيم المواطنة والتشبث بثوابت الأمة»؛ «منظومة للتعليم العالي والمهني والبحث العلمي موجهة نحو الأداء وترتكز على حكامة مستقلة، وتحفز على المسؤولية».
ثالثا، «خيار الإدماج الشامل»، وغرضه خلق «فرص لإدماج الجميع وتقوية الرابط الاجتماعي»، ومن شروطه: «دعم استقلالية المرأة وضمان المشاركة والمساواة بين الجنسين»؛ «تعزيز إدماج الشباب وتنمية قدراتهم الذاتية»؛ «تأمين قاعدة صلبة للحماية الاجتماعية»؛ «تعبئة التنوع الثقافي كرافعة للانفتاح والحوار والتماسك الاجتماعي».
رابعاً، «خيار الاستدامة الترابية» وهدفه إعداد «مجالات ترابية مستدامة كفضاء وترسيخ أسس التنمية» ويمر ذلك من طريق «إضفاء الطابع الترابي على الفعل العمومي»؛ «تحسين جودة الخدمات العمومية للقرب»؛ «تحسين السكن وإطار العيش وتعزيز الربط عبر الإنترنت ووسائل النقل»؛ «الحفاظ على الموارد الطبيعية، خصوصا الماء، وحماية التنوع البيولوجي».
يشهد الشاهد أنه كان يميل إلى الصيغة الجماعية (الجلسات العمومية) للتداول، ليس فقط في الإعداد التحضيري ل«التشخيص»، ولبلورة الرؤية، و«الخيارات، والرهانات»، باعتبار تشابك الموضوعات، وتفاعل الخبرات، وتكامل المقاربات. بدل ذلك اعتمدت «اللجنة» أسلوب «المجموعات المتخصصة» (رأس المال البشري، الاقتصاد وخلق الثروة، الاستدامة الترابية، القيم والمؤسسات والمساواة). لم يكن بُدٌّ من ذهاب الشاهد إلى مجموعة العمل المتخصصة في الموضوعات ذات الطبيعة الاقتصادية.
المرجعية الجديدة للتنمية
يقول الراوي إن الموضوعات المتروكة ل «مجموعة العمل الاقتصادية» تدور حول «الإطار الماكرو-اقتصادي»، و «دور الدولة»، و«المؤسسات والمقاولات العمومية»، و«التحوُّل الإنتاجي». أغلب «القراءات» التي اطلع عليها الشاهد المتعلقة بالإطار الماكرو اقتصادي هي من نوع «القراءة الآثمة» (بتعبير سعيد يقطين)، وهي راجعة إلى «سوء فهم» ل «المقروء»، أو إلى «سوء ظن» ب «بالمكتوب» (أي التقرير). يفهم القارئ المُتعجِّل في أمره أن «اللجنة» لم تشأ المساس ب «العقيدة» الماكرو-اقتصادية الحاكمة للسياسات العمومية تحت شرط التوازنات المالية، وهي «العقيدة» التي سنَّها صندوق النقد الدولي لبلادنا منذ الثمانينيات من القرن المنصرم. عقيدة كانت «ليبرالية»، أمست «نيوليبرالية». «فهْمٌ » جانَبَهُ الصواب، يقول الشاهد. بين منطوق لم يُقْصَد، ومقصود لم يُنْطَق، تضيع الحقيقة. المنطوق والمقصود هو ما جاء في التقرير، «سواداً على بياض» بصدد «الاختيار الاستراتيجي الرابع » (التقرير العام، ص 87-89 ) المتمثل في اعتماد إطار ماكرو-اقتصادي يصدر عن «مرجعية جديدة» تتغيا «خدمة التنمية الوطنية»، والتنمية أشمل من النمو. إطار سِمتُه المرونة، والصمود، والقدرة على معاكسة التقلُّبات الدورية، والتكييف المكين ل « السياسـات الميزانياتيـة لمواجهـة الركـود الاقتصـادي». إطار لا يُقيِّد التنمية ب«توازنات مالية» ضيقة، ضَررُها أكبر من نفْعها. جاء في التقرير، بالحرف: «ومـن شـأن هـذا التغييـر فـي المرجعيـة و»المنهجيـة» تحقيق الطمــوح الــذي يقترحــه النمــوذج التنمــوي الجديــد، ويُيسِّر الانتقــال نحــو مجتمــع أقــل تقاطُبــاً وأكثــر عدالــةً وازدهـارا ً». أربعـة إجـراءات تتعلق بالسياسة الميزانياتية، والجبائية، والنقدية، والمالية يذكُر الراوي عناوينَها، ويجد القارئ تفصيلاً لها في التقرير العام، وفي الملحقات: أولاً، «الاسـتخدام الأمثـل للماليـة العامـة فـي خدمـة التنميـة الوطنيـة». ثانياً، إرساء «نظـام ضريبـي أكثـر عدالـة» يقوم على «توسـيع أكبـر للوعـاء الضريبـي عبـر محاربـة الغـش والتهـرب الضريبَّييـن وترشـيد النفقـات الجبائيـة وإدمـاج القطـاع غيـر المهيـكل»، ويهدف إلى «تخفيـض العـبء الضريبـي علـى الأنشـطة الإنتاجيـة والتنافسـية »، و«علــى الأنشــطة ذات الأثــر الاجتماعـي وكــذا تلــك المتعلقـة بالبحث-التطويــر». ثالثاً، انخراط النظـام المالـي الوطنـي «بشـكل أكبـر فـي تمويـل الاقتصـاد، مـع الحفـاظ علـى أُسُـس اسـتقراره»، وهو ما يستوجب: «ملاءمـة القواعـد الاحترازيـة الكليـة مـع احتياجـات تمويـل الاقتصـاد الوطنـي»؛ «تدبيـر السياسـة النقديـة وفـق معاييـر تمـزج بيـن أهـداف النمـو والتحكـم فـي التضخـم فـي إطـار الصلاحيـة المزدوجـة»؛ « تشـجيع منافسـة أكبـر بيـن الأبنـاك، لاسـيما عبـر ولـوج فاعليـن جـدد داخـل القطـاع البنكـي سـواء بالنسـبة للأنشـطة الماليـة التقليديـة أو الأنشـطة الأكثـر ابتـكارا خصوصـا تلـك التـي لهـا علاقـة بمجـال التكنولوجيـا الماليـة»؛ «تقويـة المعطيـات بخصـوص الولـوج إلـى التمويـل وتوزيـع القـروض بشـكل يُلبـِّي حاجيـات مختلـف فئـات المقـاولات». رابعاً، «إرسـاء الشـروط اللازمـة لتطويـر أسـواق الرسـاميل » لكي يصبح المغرب « قطــباً مالــياً مرجعــياً داخــل محيطــه الجغرافــي».
قالوا : «المرجعية» هذه تُعيد إنتاج السياسة النيوليبرالية، ليس إلّا؛ بينما المطلوب هو إحداث «قطيعة» مع الإطار الماكرو-اقتصادي السائد. يقول الشاهد للمُتوسِّمين والمُتشكِّكين: «تبعية الطريق» تقذف بكلفة «القطيعة» إلى مستويات لا تُقدَّر، وما تمَّ التوافُق حوله، إن كان قد جاء أقلَّ من «القطيعة»، فهو، بالقوة، أكثر من «تحوُّلٍ «في» الإطار الماكرو-اقتصادي، وأقْرب إلى تحْويلٍ «له » من إطارٍ النموٌّ هو غايتُه القصوى، إلى إطارٍ التنميةُ الشاملةُ فيه هي الغاية، وهي الوسيلة في آن.
الخوف من الدولة
«المرجعية الجديدة للتنمية» التي يحكُمها، من حيث السياسات العمومية، الإطار الماكرو-اقتصادي الذي قدَّم الراوي خُطوطَه العريضة في التدوينة السابقة من هذه «السردية الذاتية»، « تُسائل»، يقول التقرير، «بالدرجــة الأولــى دور الدولــة ومهامهــا وتنظيمهــا وتفاعلاتهـا مـع باقـي الفاعليـن». تكلَّف الشاهد ضمن «مجموعة العمل الاقتصادية» بصياغة «مذكرة تأطيرية» حول دور الدولة كتكْمِلة لمذكرة «الإطار الماكرو-اقتصادي» التي كان يساهم في إعدادها أيضاً بمعية عضوين آخرين من «اللجنة». كان الشاهد «يُرافع»، دون كلل ولا ملل، من أجل الإقناع بأهمية استعادة الدولة لأدوارها كافة. مُرافعةٌ سندُها، من حيث التحليل، ما أتى به «التشخيص»، الذي كانت سماته العامة قد بدأت في الظهور، من مؤشراتٍ عن تراجع دور الدولة في بلادنا الذي لم يواكبه، في المقابل، لا تقدُّمٌ للقطاع الخاص، ولا تطوُّرٌ في بنيات السوق. كان الشاهد على وعي تام بأن «خطاب الدولة» لا يروق، ولم تعُدْ تستطيبُه الذهنيات المصقولة بإيديولوجيا السوق، و المجبولة على تعظيم المصلحة الخاصة. من ثمة، لم يكن الشاهد ينتظر من «اللجنة» أكثر من «حسن الاستماع»، والتدبُّر في الأمر. ما لم يكن في الحُسْبان بالمرَّة، ولعله فاجأ جميع الأعضاء، هو أن ينتفض أحدُهُم، خارجاً عن طوره، هائجاً مائجاً، مُقاطعاً الشاهد بحِدَّة، معترضاً، ب«أَنْكر صوت»، وب «سوء أدب»، على عرْض الشاهد للأدوار المفصلية التي كان يرى أن على الدولة الاضطلاع بها لإنجاح النموذج التنموي الجديد. فمن يا تُرى يخاف من الدولة؟ يقول الراوي: يزعُم الناس، والله أعلم، أن «العضو» الذي أَرْغد وأَزْبد بقدر ما «يسُبُّ مِلَّة الدولة»، بقدر ما يسعى إلى أن «يأكُل غَلَّتها»، وينتفع من «ريعها»، وينعم في كنفها «الرحيب المخصب»، وتزدهر «أعماله» تحت ظلها الوارف. كظم الشاهد الغيظ، ثم مضى «هوْناً» في مرافعته، وفي صياغة المذكرة التأطيرية. تصدَّى عضوان من «مجموعة الإطار الماكرو-اقتصادي»، وهما من خيرة الأعضاء، ل «الأسلوب غير المقبول»، والذي لا يليق بمستوى «اللجنة»، وبذلا كُلَّ جهْدهِما، في جلسات عدة، للْحَثِّ على إدراج المذكرة المتعلقة بدور الدولة ضمن الهندسة العامة للتقرير. عضو بارز، معروف بالحس الوطني، والرؤية البعيدة، والتَّميُّز بالريادة في « التحويل الاستراتيجي» للمجموعات الكبرى العمومية، وفي «تجديدها المستدام» (1999،Sustained regeneration», Covin & Miles»)، أثنى في جلسة عمومية على «المذكرة» بكلام طيب، ولفت إلى ما أسماه «الارتفاع بالنظر» في الشروط التي يتطلَّبُها النموذج التنموي الجديد.
ثم كانت الجائحة. طلب الملك من «اللجنة» أن تأخذ بعين الاعتبار تبعاتها، وأضاف لها مدة ستة أشهر. يقول الراوي: جائحة كوفيد-19 حسمت «الموقف» من الدولة داخل «اللجنة». لم يعد هناك تلجْلُجٌ في الوعي بالمرحلة. «الخوف من الدولة» تحوَّل، من جراء الجائحة، إلى الخوف من المجهول، ومن تكالُب قوى السوق؛ وتحوَّل، من ثمة، إلى «الحاجة إلى الدولة».
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك