بؤس الخطاب العربي

بؤس الخطاب العربي
... رأي / الجمعة 01 نوفمبر 2024 12:29:03 / لا توجد تعليقات:

مغربنا 1 المغرب 
ماذا يريد العرب في صراعهم مع إسرائيل باعتبارها غاصبة لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الوطنية؟ هل يريدون الحرب؟ أم يبغون السلام؟ هل يسعون إلى تنفيذ القرارات الأممية حول القضية الفلسطينية؟ أم أنهم قانعون بحالة اللاسلم واللاحرب، تاركين إسرائيل تمارس عنجهيتها التي تستمدها من غطرسة أمريكا، وهي تراكم نجاحاتها على الأرض، على حساب الشعب الفلسطيني الذي تزداد حياته تدهورا نتيجة الحصار المضروب على قضيته من كل جانب؟
ماذا أعدوا لكل من هذه الخيارات في الماضي، وماذا يمكنهم إعداده اليوم وقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر؟ هذه هي الأسئلة الجوهرية التي لا يريد الفلسطينيون ولا العرب ولا المسلمون طرحها لأنها في كل الحالات محرجة لهم: فلا هم قادرون على الحرب، ولا عبرة بشعارات: الموت لإسرائيل ولأمريكا! لأنهم منقسمون ومتفرقون. ولا هم قادرون على ممارسة السلم لأنهم منهزمون، والمنهزم لا يمكنه فرض شروطه في أي مفاوضات. ولا هم قادرون على فرض القرارات الأممية لأنهم مغيبون، ولا موقع لهم على الساحة الدولية.
أول التفكير: طرح السؤال. وعندما لا نطرح الأسئلة الجوهرية لا يمكننا التفكير في القضايا الأساسية، ولذلك نهرب من مواجهتها، باعتبارنا مثقفين، ومؤسسات رسمية وشعبية، إلى تضخيم المسائل الثانوية والعابرة، وفي هذا نختزل كل ما نريد استجماعه في معنى بؤس الخطاب الذي ننتج لأنه يدور على نفسه، ويلوك جاهز ما تكوَّن لديه في كل تاريخ الصراع مع إسرائيل، منتشيا بجمع فتات “إعجابات” لا مصداقية، ولا أثر لها في الواقع، من وسائط التواصل الجماهيري، في أغلب المنعطفات التي تعرفها القضية. وكلما تقدم العدو في تحقيق إنجازات جديدة لفائدته وكان ذلك ضد القضية نستعيد الأسطوانة عينها غير مراعين تبدل السياقات، ولا تغير الذهنيات والوقائع. وكلما ساهمنا في تضييع القضية، مع مرور الزمن، بسبب بؤس التفكير، وسوء التدبير، وانعدام المبادرات الخلاقة، كنا نبرئ أنفسنا مما يجري، ملقين باللائمة على العدو الصهيوني، وعلى التحالف الدولي، وعلى الأنظمة العربية. ونكتفي بتسجيل الفخر والاعتزاز بكون الشعوب العربية والإسلامية، والضمائر الحية في العالم تنتصر لقضيتنا.
إذا كان طرح الأسئلة الجوهرية، لا الثانوية، مفتاح التفكير، فإنه يدعونا أولا إلى التوفر على قدر معين من الجرأة. وثانيا أن نكون على مستوى عال من القدرة على ممارسة النقد الذاتي. وثالثا على خيال سياسي خلاق في قراءة تاريخ الصراع من منظور مختلف عما مارسناه منذ حين من الدهر. وأخيرا على عقل استشرافي للمستقبل. لكن من أين لنا تلك الجرأة، ونحن الذين أوصلنا الأمور إلى ما انتهت إليه؟ ومن أين لنا ممارسة النقد الذاتي ونحن نعتبر أنفسنا مالكي الحقيقة المطلقة وغيرنا في ضلال مبين. ومن أين لنا ذاك الخيال، ونحن نقتات من واقع الأزمة، ونستفيد منها، بل ومنا من يرغب في استمرارها؟ أما العقل الاستشرافي فهو آخر ما يمكن أن نمتلك منه مثقال ذرة من غبار! وفي كل هذا علامات بيّنة على بؤس فظيع في التفكير وفي الخطاب معا.
ألا ننظر إلى ما آلت إليه الأوضاع العربية والإسلامية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي إلى الآن بعين النقد والتحليل بعيدا عن المزايدات، والخطابات الانفعالية المجانية؟ ألا نرى أن العلاقات العربية ـ العربية والإسلامية لا تزداد إلا تدهورا وتراجعا وافتراقا؟ ألا نرى واقع الشعوب العربية لا يزداد إلا انتكاسا، وصارت الهجرة إلى أي مكان هاجسا واقعيا؟ ماذا كانت المواقف من الربيع العربي هنا وهناك؟ كيف تطورت القضية الفلسطينية، وماذا كانت ردود الأفعال حول السياسة الصهيونية من لدن كل من يزايدون بالقضية؟ فمن المسؤول عن هذا التردي الفظيع؟ أم أن كل حزب يفرح بما لديه، ويلقي اللائمة على غيره؟ كان الخلاف العربي بين دول “تقدمية” و”رجعية”، فصار الآن بين دول مطبِّعة وأخرى ضد التطبيع. فما الفرق بينهما؟ وهل يؤدي ذلك إلى حل القضايا العربية المختلفة، ومن بينها القضية الفلسطينية؟ هذه هي الأسئلة التي تقض مضجعي، ولا أبالي بمن ينام ملء جفونه مقتنعا بما لديه من إجابات تكرست لديه منذ زمان تحت تأثير الإعلام الإيديولوجي أيا كان اتجاهه.
يسألونني عن موقفي من التطبيع وكأنني المسؤول عن عقود من إذلال الشعب العربي، والتفريط في القضايا المصيرية التي تهمه. لا أخفي أنني ضد التطبيع، ولكني في الوقت نفسه لا أرى أن تسجيل المواقف يكفي. انتهى زمان الكلام والشعارات منذ أزمان. كم من المواقف والوقفات قمنا بها لفائدة فلسطين منذ السبعينيات، ومع العراق وسوريا وحزب الله في الثمانينيات والتسعينيات؟ إلى أين أدت تلك المواقف؟ والسؤال الذي يبرر الموقف هو: هل يمكن التطبيع مع دولة عنصرية، لا تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني؟ وإلى ماذا أدت العلاقات معها ضمنا أو مباشرة؟ هل تحقق السلام الذي يرضي الفلسطينيين؟ وأطرح السؤال نفسه على التطبيع: ماذا تستفيد الدول العربية منه؟ وهل يصب في مصلحة الفلسطينيين؟ وكيف؟ هذه هي الأسئلة التي أعاني منها لأنها تتطلب رؤية مختلفة عما مارسناه في علاقتنا ببعضنا وبالقضية الفلسطينية. ما يدفعني إلى طرح هذه الأسئلة، هو الخلاصة التي توصلت إليها، من خلال طول المتابعة والقلق، في علاقتنا بالقضية الفلسطينية: لقد اتخذت الأنظمة “التقدمية” القضية الفلسطينية ذريعة لفرض سلطتها على شعوبها إما باسم أنها في الواجهة، أو أنها تدعم القضية. واتخذتها المؤسسات الحزبية والنقابية المعارضة، سواء كانت اشتراكية أو إسلامية مطية لتحقيق وجودها في الساحة ضد الأنظمة الرجعية. ما أوصلني إلى هذه الخلاصة هو أن الدول العربية ومنظماتها السياسية كانت في السلطة، أو تنتظرها، منذ بدأ الحديث عن الإرهاب، والربيع العربي، وهم صامتون عما تمارسه إسرائيل وأمريكا، وما تحققانه على مستوى الواقع، واضعين القضية الفلسطينية على الرف في انتظار “صفقة القرن”، والتطبيع ليعاودوا استثمارها من جديد ليكسب كل منهم مستحقات جديدة باسم الشعب الفلسطيني المحاصر. قد تكون هذه الخلاصة غير مقنعة ومزعجة للبعض، وأنتظر من يقنعني بوجهة أخرى مُرضِية، وليست مرَضية، لأتخلى عنها.
لم يترك الفلسطينيون لمواجهة عدوهم الاستيطاني بدعم غير مشروط، ولا باستقلال عن أي تبعية معينة. ولم يكن الفلسطينيون يفكرون أنفسهم في قضيتهم إلا من خلال ما كان يفرضه عليهم الواقع العربي من اصطفافات وتناقضات. فكان الكل في الهم شرقا! وها هي نتائج ممارسات عقود، توصل إلى الطريق المسدود. هل يكفي أن أقول إنني ضد التطبيع لأكون بذلك منتصرا للشعب الفلسطيني؟ وهل يكفي أن أقول إنني مع التطبيع متمنيا، أو متوهما أنه سيوصل إلى سلام حقيقي؟ وأنا لا أشهد في كل التاريخ مع إسرائيل التي تدعمها أمريكا إلا الغطرسة والعنجهية؟ ناران بينهما أتقد لأنني أتعامل مع السردية العربية ليس بمنطق الانتصار للتفرقة والانفصال ضد الوحدة والاتصال. إن من هم ضد التطبيع هم ضده مع أنفسهم، ومن هم مع التطبيع، لا يمارسونه بينهم. فما الفرق بينهما؟
كم من حاجة فرطنا فيها بسوء تقديرنا للعواقب وبرهانات لا أساس لها. فمتى نفكر في قضايانا الخاصة والعامة بالروح النقدية والعقلية والحوارية لا الانفعالية والإقصائية والانتهازية؟ إنه سؤال لتجاوز البؤس العام.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك