أنتلجنسيا المغرب:أبو جاسر
في خضم الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد، وبينما يكافح المواطن المغربي لتدبير قوت يومه وسط الغلاء الفاحش، تسير الحكومة في اتجاه آخر تمامًا، محملة الأجيال القادمة بأعباء ديون ثقيلة، لكن المفارقة أن هذه الديون لا تُصرف داخل المغرب لتطوير صناعاته المحلية أو خلق فرص شغل لمواطنيه، بل تُضخ مباشرة في اقتصادات الدول الأجنبية، في سيناريو عبثي حيث نقترض من الخارج لشراء منتجاته، ونحرك عجلات نموه على حساب مستقبلنا الاقتصادي.
لم يكن القرض الفرنسي الذي حصل عليه المغرب بقيمة 781 مليون أورو (824 مليار سنتيم) من أجل اقتناء 18 عربة قطار فائق السرعة من فرنسا سوى حلقة جديدة في مسلسل طويل من الارتهان المالي والتبعية الاقتصادية للخارج. فسرعان ما تبعته صفقة جديدة مع كوريا الجنوبية بقرض قيمته 1280 مليار سنتيم لشراء 110 عربات قطارات للنقل السريع من شركة "هيونداي روتيم"، بتمويل مباشر من صندوق التعاون الاقتصادي والتنمية الكوري الجنوبي التابع لبنك التصدير والاستيراد الكوري. وكأن هذا لم يكن كافيًا، جاءت إسبانيا أيضًا لتدخل على الخط، حيث ستُزود المغرب بـ 40 عربة قطار بين المدن عبر شركتها "CAF"، بقرض يبلغ 796 مليار سنتيم وافقت عليه الحكومة الإسبانية في فبراير الماضي.
وعندما نجمع كل هذه الأرقام، نجد أن المبلغ الإجمالي الذي استلفه المغرب لتطوير شبكته الحديدية قد بلغ حتى الآن 29 مليار درهم، أي 2900 مليار سنتيم، في رقم ضخم يعادل ميزانيات كبرى الوزارات، أو مشاريع ضخمة كانت ستعود بالنفع المباشر على المواطن المغربي لو تم استثمارها بحكمة داخل البلاد.
لكن المثير في هذا المخطط ليس فقط حجم القروض، بل الطريقة التي يتم بها تمريرها وتوزيعها على الفاعلين الاقتصاديين الأجانب. إذ أن هذه الصفقات تشمل كل مراحل الإنتاج والتنفيذ، حيث تتكفل الدول المقرضة بسلسلة القيمة كاملة، بدءًا من الدراسات والتصميم، مرورًا بالإنتاج والتركيب، ثم التكوين والصيانة وخدمات ما بعد البيع، أي أن الأموال التي يقترضها المغرب لا تبقى داخل الاقتصاد الوطني، بل تعود بالكامل إلى الدول المقرضة، في نموذج فج للدين الخانق الذي يغرق الاقتصاد المحلي بينما يُثري الاقتصادات الأجنبية.
وفي ظل هذه السياسة، يبدو أن المغرب بات فاعلًا اقتصادياً لصالح الخارج، لا لصالح مواطنيه، حيث أن المستفيد الحقيقي من هذه القروض ليست الأسر المغربية التي تعاني من تدني قدرتها الشرائية، بل بنوك فرنسا وكوريا الجنوبية وإسبانيا، التي ستستفيد من فوائد الدين وعمولات التمويل، بينما ستعرف شركات التصنيع في هذه البلدان ازدهارًا ونموًا بفضل العقود المربحة التي يتم توقيعها على حساب الميزانية المغربية.
أما المواطن المغربي، فدوره يقتصر على الدفع فقط، فهو غير مستفيد من فرص الشغل التي خلقتها هذه المشاريع، وغير مستفيد من تطوير صناعات محلية في قطاع السكك الحديدية، بل عليه ببساطة أن يدفع ثمن الخدمة عبر تذاكر مرتفعة السعر، بينما تُنهك الميزانية العامة بتكاليف الصيانة وخدمة الدين، في ظل إهمال قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية الأساسية.
الحكومة تُحرّك الاقتصاد.. لكن لصالح من؟
السيد عزيز أخنوش، ومن يقفون خلف هذه السياسات، لم يكذبوا عندما قالوا إنهم يعملون على تحريك العجلة الاقتصادية، وتوفير فرص الشغل، وتحفيز الأسواق المالية، لكن السؤال الجوهري هو: لصالح من؟ فمن الواضح أن الاقتصاد الذي يتم إنعاشه ليس الاقتصاد المغربي، بل اقتصاد الدول التي تستفيد من هذه الصفقات. فرص الشغل التي يتم خلقها ليست للشباب المغربي الذي يعاني من بطالة تقارب 23% في بعض المدن الكبرى، بل لعمال الشركات الكورية والإسبانية والفرنسية. الأسواق التي تنتعش ليست أسواق المغرب، بل أسواق الدول المصنعة التي تُصَدِّر لنا منتجاتها بمقابل مادي مضاف إليه الفوائد والعمولات.
وفي المقابل، نجد أن الواقع المغربي يتجه نحو مزيد من التهميش والتدهور، فبينما تُخصص مليارات الدراهم لشراء القطارات من الخارج، لا يزال المواطن المغربي يعاني من غلاء فاحش في أسعار المواد الغذائية، حيث أصبح السمك يباع بأسعار عالمية رغم أن المغرب من كبار منتجيه، واللحوم الحمراء اختفت من موائد الأسر البسيطة بسبب ارتفاع أسعارها الجنوني.
أما على مستوى الخدمات العامة، فالصورة أكثر قتامة:
لا يزال آلاف المواطنين الذين فقدوا منازلهم في زلزال الحوز يعيشون في العراء وسط ظروف مناخية قاسية، دون أي دعم حكومي ملموس.
لا تزال مشاريع مونديال 2030 تتسبب في تهجير مئات العائلات التي تُجبر على مغادرة منازلها لإفساح المجال للبنية التحتية الخاصة بالمونديال، دون أي تعويضات كافية.
لا يزال الشباب المغربي يواجه أفقًا مظلمًا، حيث لا فرص عمل، ولا سياسة صناعية واضحة، ولا دعم لريادة الأعمال المحلية.
وبينما تغرق البلاد في هذه الأزمات، لا يجد المواطن المغربي سوى وعود الحكومة التي تُبرر كل شيء بالتنمية والتقدم والاستثمار في المستقبل، في حين أن الحقيقة الواضحة هي أن هذه التنمية ليست موجهة لصالحه، بل لصالح الجهات الخارجية التي تجد في المغرب زبونًا موثوقًا يدفع بسخاء مقابل أي منتج، حتى لو كان ذلك على حساب سيادته المالية واستقلاله الاقتصادي.
في النهاية، عندما تُصبح الدولة رهينة للديون الخارجية، وعندما يتم توجيه الموارد العامة لخدمة المصالح الأجنبية بدلًا من دعم النمو الداخلي، فإن الأمر لا يتعلق فقط بسوء تدبير اقتصادي، بل هو خيار سياسي بامتياز، خيار يجعل من المغرب سوقًا مفتوحة أمام المنتجات الأجنبية، بينما يظل المواطن المغربي مُجرد رقم في معادلة ديون لا نهاية لها.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك