أنتلجنسيا المغرب:لبنى مطرفي
في خطوة وُصفت بأنها انتصار للقيم الدينية وحماية للهوية الروحية للمغاربة، أصدرت الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا) قراراً يُلزم القناة الثانية "دوزيم" ببث الأذان كاملاً صوتاً وصورة، وذلك بعد جدل طويل رافق الاكتفاء بعرضه عبر شريط مكتوب فقط.
القرار شكّل لحظة حاسمة في العلاقة بين الإعلام العمومي والمكون الديني للهوية المغربية، وفتح الباب أمام نقاش وطني حول دور الإعلام العمومي في احترام الشعائر الدينية للمغاربة، وخاصة في سياق شهر رمضان الذي يُشكّل فيه الأذان لحظة روحية خاصة.
خلفية القرار: شكاوى المواطنين وردود "الهاكا"
القرار جاء استجابة لعدد من الشكايات التي تلقّتها "الهاكا" من مواطنين وجمعيات، استنكرت استمرار القناة الثانية في الاكتفاء بعرض الأذان على شكل شريط مكتوب أسفل الشاشة، دون بثه صوتياً كما تفعل القناة الأولى وباقي القنوات الوطنية. الشكايات اعتبرت هذا السلوك إقصاءً لواحدة من أبرز الشعائر الدينية الإسلامية، ومخالفة واضحة للدور التربوي والديني الذي يُفترض أن تضطلع به القنوات العمومية، باعتبارها جزءاً من النسيج الثقافي والديني المغربي.
وبعد دراسة الملفات، اعتبرت "الهاكا" أن بث الأذان في وسائل الإعلام العمومية لا يمكن أن يكون مجرّد "تنويه مكتوب"، بل هو فعل تعبّدي يتصل مباشرة بالحياة اليومية للمغاربة وهويتهم الروحية، وبالتالي فإن اختزاله في شريط مكتوب يُعد تقصيراً لا ينسجم مع التعددية الثقافية والهوية الإسلامية الرسمية للمملكة.
الزامية دينية ومجتمعية
أكدت الهيأة في قرارها أن بث الأذان ليس فقط تقليداً دينياً، بل هو التزام أخلاقي وثقافي يعكس احترام المؤسسة الإعلامية العمومية لمشاعر المغاربة وتقاليدهم، وخاصة في شهر رمضان الذي تُعد فيه لحظة الأذان إحدى أقوى اللحظات الرمزية في وجدان الصائمين. وأضافت أن "الحق في تعبير ديني متوازن ضمن الخدمة الإعلامية العمومية لا يُفهم فقط كحرية، بل كمسؤولية".
وبموجب القرار، باتت القناة الثانية مُلزمة ببث الأذان كاملاً بصيغته الصوتية المعتادة، في جميع الصلوات، أسوة بباقي القنوات الوطنية، بما فيها "الأولى"، "السادسة"، والقنوات الجهوية. القرار يشمل كذلك ضرورة توحيد المعايير التقنية والجمالية لبث الأذان، بما يُحافظ على وقاره ورمزيته.
"دوزيم" أمام مرآة المسؤولية
القناة الثانية، التي كثيراً ما وُجهت لها انتقادات بسبب محتواها المتعلق بالجانب الديني، وجدت نفسها مرة أخرى في قلب عاصفة مجتمعية، خاصة بعدما تجاهلت طويلاً المطالب الشعبية ببث الأذان صوتاً وصورة. ورغم أن إدارة القناة برّرت الأمر سابقاً ببرمجة تقنية وتلفزية، فإن القرار الأخير للهاكا يُعد توبيخاً غير مباشر للطريقة التي تعاطت بها القناة مع واحدة من أبرز القضايا التي تمس الشعور الجمعي للمواطن المغربي.
ويُرتقب أن تشرع القناة في تنفيذ القرار خلال الأيام القليلة المقبلة، خاصة في ظل متابعة الرأي العام الحثيثة لمدى التزامها بما فرضته "الهاكا"، وإلا ستكون معرضة لعقوبات تنص عليها مدونة البث السمعي البصري.
تفاعل شعبي واسع
القرار أثار موجة من التفاعل الإيجابي على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث اعتبر كثير من النشطاء أنه انتصار لـ"المغاربة البسطاء" الذين ظلوا لسنوات يطالبون فقط بحقهم في سماع الأذان من خلال قناتهم العمومية. وذهب البعض إلى اعتبار القرار إعادة اعتبار رمزية للدين الإسلامي في المشهد السمعي البصري المغربي، ودعوة غير مباشرة لباقي القنوات العمومية والخاصة لتقييم محتواها ومدى احترامه لقيم وهوية المجتمع.
وفي المقابل، اعتبر البعض الآخر أن القضية تكشف عن وجود فجوة بين النخبة الإعلامية في بعض المؤسسات العمومية ووجدان المواطن المغربي، ما يُوجب فتح نقاش أوسع حول تمثيلية المواطن في الإعلام العمومي، وحول من يُقرر فعلاً ما يجب بثه أو حذفه من محتوى يمس الحياة الروحية للمغاربة.
هل هي بداية تحول في السياسة الإعلامية الدينية؟
يتساءل كثير من المتتبعين ما إذا كان قرار "الهاكا" مجرد تصحيح موضعي لوضع خاطئ، أم أنه بداية مسار أوسع نحو مراجعة السياسات الدينية في الإعلام العمومي المغربي. فبين مطالب بإعادة الاعتبار للبرامج الدينية التثقيفية، ودعوات لإدماج الأبعاد الروحية في البرامج الاجتماعية والترفيهية، يبرز الأذان كرمز يعكس أعمق القضايا المتصلة بدور الإعلام في صيانة القيم، وتوجيه الذوق العام نحو الاعتدال والانتماء.
ختاما، فالهاكا، من خلال قرارها الأخير، وضعت "دوزيم" أمام امتحان كبير: هل هي قناة عمومية فعلاً تُعبر عن هوية المغاربة وتلبي حاجاتهم الروحية والثقافية؟ أم أنها مجرد مؤسسة إعلامية تشتغل بمنطق السوق والبرمجة التجارية؟ الجواب، كما يرى كثيرون، سيكون واضحاً في الأذان المقبل، حين ينتظر المغاربة أن يُسمعوا لا أن يُقرأ عليهم…
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك