أنتلجنسيا المغرب:رئاسة التحرير
منذ انطلاق شرارة الربيع العربي في نهاية عام 2010، برزت دولة الإمارات العربية المتحدة كفاعل إقليمي يسعى لإعادة تشكيل الخريطة السياسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
فبين سياسات التدخل العسكري والدعم المالي والسياسي للأنظمة المناهضة للثورات الشعبية، وبين إطلاق شعارات التسامح والتدين المعتدل، تبدو استراتيجيات الإمارات وكأنها تسير في اتجاهين متناقضين تمامًا.
على المستوى الإقليمي، كان لدولة الإمارات يدٌ بارزة في التفاعلات السياسية والعسكرية التي أعقبت الربيع العربي. فقد دعمت بشكل مباشر الانقلاب العسكري في مصر عام 2013 ضد أول رئيس منتخب ديمقراطيًا، محمد مرسي، والذي جاء في سياق ثورة يناير. هذا التدخل السياسي كان خطوة واضحة لإجهاض الحراك الشعبي الذي أطاح بنظام حسني مبارك، ويهدف إلى تثبيت نظام جديد يخدم المصالح الإقليمية لأبوظبي.
في البحرين، كان للإمارات دور رئيسي في قمع المظاهرات السلمية التي قادها مواطنون مطالبون بإصلاحات ديمقراطية. من خلال مشاركتها في إرسال قوات "درع الجزيرة"، عملت أبوظبي على دعم النظام الحاكم وضمان استمرار الوضع القائم، متجاهلة بذلك المطالب الشعبية المشروعة بالإصلاح السياسي.
أما في اليمن، فقد ترك التدخل العسكري الإماراتي بصمات عميقة، لكنه في الوقت ذاته تسبب في مآسٍ إنسانية غير مسبوقة. دعمت الإمارات الانفصال في الجنوب، وأعاقت جهود الحكومة المعترف بها دوليًا لإعادة توحيد البلاد. كما أدى الحصار البحري والجوي المفروض، بالتنسيق مع السعودية، إلى انتشار المجاعة ومرض الكوليرا، مما جعل اليمن يعيش واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.
وفي ليبيا، قدمت الإمارات دعمًا عسكريًا ولوجستيًا كبيرًا للجنرال خليفة حفتر، في صراع مفتوح ضد حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا. هذا التدخل، الذي يتناقض مع قواعد القانون الدولي، أسهم في تعقيد المشهد السياسي الليبي وزيادة الانقسام داخل البلاد.
على النقيض من هذه السياسات الإقليمية، أطلقت الإمارات داخليًا مبادرات تروج لما تسميه "الإسلام المعتدل" وقيم التسامح والتعايش. في السنوات الأخيرة، أنشأت الحكومة أربع وزارات جديدة هي: وزارة التسامح، وزارة السعادة، وزارة الشباب، ووزارة المستقبل. هذه المبادرات جاءت ضمن مشروع واسع تستخدمه الإمارات كأداة للقوة الناعمة، بهدف تحسين صورتها على المستوى العالمي وتقديم نفسها كنموذج يحتذى به في التسامح الديني والانفتاح الثقافي.
الإمارات تعلن بفخر عن مبادرات مثل بناء "بيت العائلة الإبراهيمية"، الذي يضم مسجدًا وكنيسة وكنيسًا يهوديًا في مكان واحد، بالإضافة إلى احتضانها مؤتمرات دولية تُعنى بحوار الأديان والتعايش. كما أن أبوظبي تستضيف "مجلس حكماء المسلمين"، الذي يسعى للترويج لفكرة الإسلام الوسطي بعيدًا عن التشدد والتطرف.
ولكن هذه "الرواية الإماراتية" تصطدم بسؤال محوري: كيف يمكن التوفيق بين الترويج لقيم التسامح والسعادة من جهة، وبين دعم الحروب والانقلابات وقمع الحريات في المنطقة من جهة أخرى؟
منتقدو السياسات الإماراتية يرون أن هذه المبادرات الداخلية ليست سوى واجهة دعائية تهدف إلى تحسين صورة الدولة، بينما سياساتها الخارجية تتسم بالتدخل المباشر والانتهاكات الحقوقية. فبينما تتحدث الإمارات عن التسامح والاعتدال، فإنها تستخدم أجهزتها الإعلامية وأموالها لإعادة تشكيل المشهد السياسي في دول الربيع العربي بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.
في هذا السياق، يمكن اعتبار هذه التناقضات تعبيرًا عن استراتيجية مزدوجة تهدف إلى تحقيق مكاسب على الصعيدين الداخلي والخارجي. داخليًا، تحاول الإمارات خلق صورة عن نفسها كدولة حديثة ومتقدمة تعزز قيم التسامح والسعادة. أما خارجيًا، فهي تسعى لتحقيق أهداف جيوسياسية واقتصادية من خلال دعم حلفائها في المنطقة ومواجهة القوى التي تعتبرها تهديدًا لاستقرارها.
إلا أن هذه الاستراتيجية قد تحمل في طياتها مخاطر جمة. فمع تزايد الانتقادات الدولية بشأن دور الإمارات في تعميق الأزمات الإنسانية، ومع تصاعد التساؤلات حول تناقض سياساتها بين الداخل والخارج، قد تجد أبوظبي نفسها في مواجهة تحديات كبرى للحفاظ على مصداقيتها وصورتها العالمية.
ختامًا، تظل الإمارات نموذجًا يعكس التعقيد الذي يشهده العالم العربي في مرحلة ما بعد الربيع العربي. بين شعارات التسامح وواقع التدخلات العسكرية، يتساءل كثيرون: هل يمكن الجمع بين القيم الإنسانية النبيلة والطموحات الجيوسياسية المتناقضة؟ أم أن هذه الاستراتيجية محكومة بالفشل على المدى البعيد؟
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك