أنتلجنسيا المغرب:رئاسة التحرير
وسط النقاشات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالساحة المغربية، تبرز قضية الأجور والمعاشات التي يتقاضاها الوزراء المغاربة والسابقون كواحدة من المواضيع المثيرة للجدل بين مختلف الأطراف.
غير أن التركيز على هذا الجانب المالي، رغم أهميته، يبدو في كثير من الأحيان كأداة لتحوير النقاش عن قضايا أكبر وأكثر تأثيرًا على الاقتصاد الوطني، مثل الصفقات العمومية الكبرى التي تقدر بملايير الدراهم، والمشاريع الاستراتيجية التي غالبًا ما تثير الشبهات حول شفافيتها وجدواها.
نقاش المعاشات:بين الواقع والانحراف عن الأولويات
لا يختلف اثنان على أن معاشات الوزراء وأجورهم تثير حفيظة جزء كبير من المغاربة، خاصة في ظل الفجوة الكبيرة بين الطبقات الاجتماعية والتحديات الاقتصادية التي يواجهها المواطن العادي. فالمعاشات التي يحصل عليها الوزراء السابقون تُعتبر بالنسبة للكثيرين غير مبررة، خاصة في ظل أداء حكومي يُوصف أحيانًا بالضعيف أو غير الفعّال.
لكن هل يشكل هذا النقاش، الذي يطغى على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، أولوية فعلية في ظل وجود ملفات ثقيلة تضغط على الاقتصاد المغربي؟ الجواب ربما يكمن في تتبع النقاط التي يتم تهميشها أثناء هذه النقاشات "الجانبية"، والتي تتعلق بالصفقات العمومية الكبرى التي تتجاوز أحيانًا مليارات الدراهم، دون رقابة كافية أو تحقيق علني يضمن الشفافية والمحاسبة.
الصفقات الكبرى: "صندوق أسود" للتسيير العمومي
في الوقت الذي تُركّز فيه الأضواء على معاشات الوزراء، تغيب النقاشات حول ملفات ضخمة تتعلق بالصفقات الكبرى التي يتم إبرامها في مجالات البنية التحتية، الطاقة، الصحة والتعليم. هذه الصفقات، التي تُنفذها الشركات الكبرى، غالبًا ما تكون موضوعًا للجدل، سواء من حيث معايير اختيار المتعاقدين، أو من حيث التكلفة المعلنة التي قد تفوق أحيانًا ما هو معمول به في دول ذات اقتصاديات أكثر تطورًا.
وفقًا لتقارير صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات، فإن جزءًا من هذه الصفقات يشوبها تضارب مصالح، وهدر للمال العام، وسوء تدبير. إلا أن القليل منها فقط يحظى بالاهتمام الإعلامي أو يخضع لتحقيقات موسعة.
التركيز على الأداء بدل الامتيازات
النقاش الحقيقي الذي يجب أن يُفتح، حسب العديد من المراقبين، هو ليس حول ما يحصل عليه الوزراء من امتيازات مالية، بل حول أدائهم وإنتاجيتهم في إدارة الشأن العام. هل تحقق الحكومات المتعاقبة النتائج المرجوة منها؟ هل ينجح الوزراء في تنفيذ السياسات التي تعد بها الأحزاب السياسية خلال حملاتها الانتخابية؟ وهل يُحاسب الوزراء الذين يفشلون في تحقيق أهدافهم، بغض النظر عن معاشاتهم؟
قضايا بعيدة عن الأضواء
في الوقت الذي تستهلك فيه نقاشات المعاشات الحيز الأكبر من النقاش العام، تبقى ملفات مثل:
مشاريع البنية التحتية الكبرى: الطرق السريعة، المطارات، والموانئ، التي تتجاوز تكاليفها مليارات الدراهم دون شفافية كافية.
صفقات الطاقة: بما فيها عقود شراء الغاز والنفط، ومحطات الطاقة الشمسية، التي تُثير تساؤلات حول تكلفة إنتاجها ومدى مساهمتها في تخفيف العبء على الاقتصاد.
قطاع الصحة والتعليم: حيث يتم تخصيص ميزانيات ضخمة لمشاريع تحسين جودة الخدمات، لكن النتائج على أرض الواقع تبقى بعيدة عن توقعات المواطنين.
المقارنة الدولية: هل الوزراء في المغرب استثناء؟
لإعادة النقاش إلى سياقه الطبيعي، من المهم مقارنة الوضع المغربي مع دول أخرى. في فرنسا، ألمانيا، أو كندا، يتمتع الوزراء برواتب ومعاشات تُعتبر مرتفعة مقارنة بمواطنيهم. لكن الفارق يكمن في المحاسبة الصارمة التي يخضعون لها، والنتائج الملموسة التي تحققها الحكومات. بمعنى آخر، الامتيازات التي يحصل عليها المسؤولون يجب أن تكون متناسبة مع الأداء المحقق، وهو ما يطالب به المغاربة اليوم.
نحو نقاش أعمق
من أجل تجاوز النقاش "البئيس" حول المعاشات، يرى كثيرون أن الأولوية يجب أن تُعطى للمساءلة والشفافية في إدارة المال العام. ولتحقيق ذلك، يمكن اتخاذ مجموعة من الإجراءات:
تعزيز آليات الرقابة: توسيع صلاحيات المجلس الأعلى للحسابات لتشمل التحقيق في الصفقات الكبرى بشكل مباشر ودوري.
إلزامية نشر الصفقات العمومية: فرض نشر تفاصيل الصفقات الكبرى على البوابات الرسمية، مع ضمان حق المواطنين في الاطلاع عليها.
ربط الامتيازات بالأداء: تعديل القوانين المنظمة لأجور ومعاشات الوزراء لتكون مشروطة بتحقيق أهداف محددة وقابلة للقياس.
إشراك المجتمع المدني: دعم الجمعيات والمبادرات التي تهدف إلى مراقبة وتتبع الصفقات العمومية.
في النهاية، تبقى قضية معاشات الوزراء وأجورهم قضية فرعية مقارنة بالتحديات الكبرى التي يواجهها الاقتصاد المغربي. النقاش الحقيقي الذي يجب أن يُثار هو حول كيفية إدارة المال العام، وكيفية تحقيق الشفافية والمحاسبة في الصفقات الكبرى، بعيدًا عن الانشغال بقضايا "الملاميم" التي تُبعد الأنظار عن القضايا المصيرية. المغاربة اليوم يحتاجون إلى نقاش عميق ومسؤول حول أداء المسؤولين، وليس فقط حول امتيازاتهم، لأن التحدي الحقيقي يكمن في تحقيق التنمية، ومحاربة الفساد، وضمان العدالة الاجتماعية للجميع.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك