أنتلجنسيا المغرب:هيئة التحرير
عندما بدأ الإسلام يشق طريقه في جزيرة
العرب، كان لزامًا على النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يضع نظامًا واضحًا لإعلام
المسلمين بأوقات الصلاة، الركن الأساسي في الدين. لم يكن هناك مكبرات صوت ولا
وسائل اتصال، وكان السؤال المطروح: كيف يمكن إبلاغ المسلمين بمواقيت الصلاة بطريقة
مؤثرة وسهلة الانتشار؟ .
هنا جاء القرار الذي غيّر مسار
التاريخ، باختيار بلال بن رباح ليكون أول مؤذن في الإسلام. ولكن، لماذا بلال
تحديدًا؟ ولماذا لم يُسند هذا الدور إلى أي من الصحابة الآخرين؟
كان بلال رضي الله عنه عبدًا حبشيًا
سابقًا، تحمّل ألوان العذاب من أسياده في مكة بسبب إسلامه، ومع ذلك، لم يتزحزح
إيمانه قيد أنملة. صبره وثباته في وجه التعذيب جعلاه رمزًا للقوة الروحية والإخلاص
لله. لم يكن اختياره مجرد قرار عشوائي، بل كان يحمل دلالات عميقة تعكس رؤية النبي
صلى الله عليه وسلم في بناء الأمة الإسلامية.
أحد أبرز الأسباب التي جعلت النبي
يختار بلالًا هو صوته الفريد. فقد كان بلال صاحب صوت قوي وعذب، يشدّ الانتباه
ويلامس القلوب، في ذلك الزمن، لم تكن هناك وسيلة أفضل لإيصال نداء الصلاة إلى
المسلمين سوى الصوت البشري القوي، وكان بلال يتمتع بهذه الموهبة النادرة، مما جعله
الخيار الأمثل لهذه المهمة العظيمة.
لكن المسألة لم تكن مجرد امتلاك صوت
جميل، بل كانت أعمق من ذلك. اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لبلال كان رسالة
واضحة للمجتمع بأن التفاضل بين البشر لا يقوم على اللون أو العرق، بل على التقوى
والعمل الصالح، فبلال، العبد السابق الذي كان مضطهدًا ومهضوم الحقوق، أصبح فجأة
صاحب المكانة التي ترفع صوته خمس مرات يوميًا ليعلن أعظم شعائر الإسلام. كان هذا
الاختيار ثورة اجتماعية بكل المقاييس.
ومن الأسباب الأخرى التي جعلت بلالًا
أول مؤذن، أنه كان من أوائل من آمنوا بالإسلام وأخلصوا له. لم يكن مجرد مسلم عادي،
بل كان نموذجًا للصبر والتضحية. تعذيبه في مكة لم يكن مجرد اختبار شخصي، بل كان
شاهدًا على مدى إخلاصه للدعوة، وعندما أذن للصلاة لأول مرة، لم يكن ذلك مجرد نداء
عادي، بل كان صرخة انتصار على الظلم والقهر الذي تعرض له طوال حياته.
كما أن الأذان لم يكن مجرد نداء
للصلاة، بل كان إعلانًا عن سيادة الإسلام في المجتمع الجديد. وكان النبي صلى الله
عليه وسلم يريد أن يكون هذا النداء مرتبطًا بشخص يعبر عن روح الإسلام الحقيقية. لم
يكن الإسلام دينًا للنخبة فقط، بل كان دينًا عالميًا، لا يفرق بين سيد وعبد، بين
قرشي وحبشي.
ومن هنا، فإن اختيار بلال كان بمثابة كسر
للحواجز العنصرية والاجتماعية، وإرساء لقيم المساواة والعدل التي جاء بها الإسلام.
لم يكن بلال مجرد مؤذن عادي، بل كان
رفيق النبي في كثير من المواقف العظيمة. شهد معارك الإسلام الكبرى، وكان إلى جانب
النبي في السراء والضراء، بل إنه كان من أقرب الناس إلى قلب النبي، حتى إنه عندما
فتح المسلمون مكة، أمر النبي بلالًا أن يصعد فوق الكعبة ويؤذن، في مشهد لم يكن
ليتخيله أحد من قريش.
هذا العبد السابق، الذي كان يُضرب تحت
الشمس الحارقة، أصبح اليوم هو من يرفع الأذان من قلب الكعبة، ليعلن انتصار الإسلام.
كما أن اختيار بلال كان يحمل دلالة
روحية أيضًا. فالأذان ليس مجرد كلمات، بل هو دعوة للعودة إلى الله، وكان بلال يجسد
هذه الدعوة بكل تفاصيل حياته، لقد كان صوته يحمل معاني الصبر، القوة، واليقين، مما
جعل الأذان أكثر تأثيرًا في نفوس المسلمين.
ورغم المكانة العظيمة التي حظي بها
بلال، إلا أنه ظل متواضعًا، متمسكًا بدينه، زاهدًا في الدنيا. حتى بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم، لم يستطع أن يبقى في المدينة بسبب شدة تعلقه بالنبي، فهاجر
إلى الشام، لكنه ظل محتفظًا بدوره كمؤذن، لأن الأذان كان بالنسبة له أكثر من مجرد
نداء، بل كان شرفًا لا يعادله شيء.
وفي أحد الأيام، وبعد سنوات من وفاة
النبي، عاد بلال إلى المدينة، وعندما طلب منه الصحابة أن يؤذن، لم يتمالك نفسه من
البكاء، لأنه كان يتذكر تلك الأيام العظيمة التي كان يؤذن فيها بحضور النبي.
وعندما رفع صوته بالأذان، بكى أهل المدينة جميعًا، لأنهم شعروا كأن النبي صلى الله
عليه وسلم قد عاد للحياة من جديد.
إن قصة بلال بن رباح ليست مجرد قصة
صحابي عظيم، بل هي درس خالد في الإيمان، الصبر، والمساواة. لقد كان بلال أكثر من
مجرد مؤذن، لقد كان رمزًا لتحرر الإنسان من قيود الظلم والعبودية، وكان صوته يذكر
المسلمين كل يوم بأن الإسلام جاء ليحررهم، لا من قيود الزمن فحسب، بل من قيود
النفس والهوى.
وبهذا، يمكننا أن نفهم أن اختيار النبي
صلى الله عليه وسلم لبلال لم يكن مجرد اختيار لصوت جميل، بل كان اختيارًا يحمل
رسالة عميقة للعالم بأسره، بأن الإسلام لا ينظر إلى لون البشرة، أو الأصل، أو
المكانة الاجتماعية، بل ينظر إلى القلوب وإلى مقدار الإخلاص لله.
وهكذا، ظل بلال بن رباح صوتًا خالدًا
في تاريخ الإسلام، ليس فقط لأنه أول مؤذن، ولكن لأنه كان نموذجًا للإنسان الذي
انتصر على الظلم بالإيمان، ورفع صوته عاليًا ليكون شاهداً على أن العزة ليست في
المال أو الجاه، بل في قول:
"الله
أكبر".
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك