رمضان.. مدرسة الصبر وموسم الأجر والروحانيات .

رمضان.. مدرسة الصبر وموسم الأجر والروحانيات .
دين / الاثنين 03 مارس 2025 - 18:06 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب: هئية التحرير

يحل شهر رمضان ليحمل معه نفحات إيمانية وروحانية خاصة، تغمر القلوب بالسكون والطمأنينة، وتمنح الإنسان فرصة فريدة لإعادة ترتيب أولوياته بين الروح والجسد. إنه ليس مجرد شهر للصيام عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة متكاملة في الصبر والانضباط والتقوى، حيث يتعلم الصائم كيف يتحكم في شهواته ورغباته، ويتقرب من الله بقلب خاشع وروح متأملة. وما بين الجوع الذي يذكّرنا بالفقراء، والتعب الذي يشعرنا بحقيقة النعمة، تتجسد أعظم معاني العطاء والتراحم في هذا الشهر الكريم.

الصيام ليس مجرد امتناع عن الأكل والشرب لساعات طويلة، بل هو اختبار حقيقي للصبر بكل أشكاله، فهو صبر على الجوع والعطش، صبر على كبح الغضب والتحكم في الانفعالات، صبر على مقاومة الشهوات، وصبر على مشقة القيام والطاعات. وهذه التضحيات اليومية تصقل النفس البشرية وتعيد تشكيلها، فتجعلها أكثر قوة وثباتًا في مواجهة تقلبات الحياة. فكما أن الجسم يعتاد تدريجيًا على الصيام ويجد فيه راحة بعد أيام، فإن الروح كذلك تتكيف مع هذا الانضباط، لتصل إلى حالة من السلام الداخلي والارتقاء الروحي.

ومن أسرار هذا الشهر المبارك أنه لا يقتصر فقط على الصيام عن الطعام، بل يمتد ليشمل تهذيب اللسان والجوارح. فالإنسان في رمضان مدعوّ إلى التحكم في كلماته، وتجنب الغيبة والنميمة والكلام الجارح، وكأنه في اختبار يومي يحدد مدى قدرته على ضبط نفسه. ومن خلال هذا التدريب العملي، يكتسب الإنسان قوة داخلية تساعده ليس فقط في رمضان، بل في حياته كلها، حيث يصبح أكثر حكمة في تعاملاته، وأكثر وعيًا بتأثير كلماته وأفعاله.

أما عن الأجر، فإن شهر رمضان يعد موسمًا مفتوحًا للتنافس في الخيرات، حيث تُضاعف الحسنات، ويكون الجزاء بلا حدود. فمن صام نهاره إيمانًا واحتسابًا، ومن قام ليله بخشوع، ومن تصدق وساعد المحتاجين، فإنه يسير في درب لا يعلمه إلا الله، لكنه مليء بالرحمات والبركات. ولذلك نجد أن الكثير من الناس يحرصون على استثمار هذا الشهر في الإكثار من العبادات والأعمال الصالحة، إدراكًا منهم لقيمته الكبرى ولفرصة العمر التي يمنحها لهم.

الجانب الاجتماعي في رمضان لا يقل أهمية عن الجانب الروحي، فهو شهر يوقظ في النفوس معاني الرحمة والتكافل الاجتماعي. نجد موائد الإفطار التي تمتد في كل مكان، والجيران يتبادلون الأطباق، والأسر تجتمع على مائدة واحدة بعد يوم طويل من الصيام. إنها لحظات تحمل في طياتها مشاعر الدفء والمودة، وتعيد للأسر تلاحمها الذي ربما تآكل تحت وطأة الانشغالات اليومية. كما أن هذا الشهر يدفع الجميع إلى التفكير في المحتاجين، والتبرع لهم، ومد يد العون لمن يعانون من ضيق الحال، في صورة رائعة للتآخي والتراحم بين أفراد المجتمع.

رمضان هو أيضًا فرصة ذهبية لتصفية القلوب، فكما يصوم الإنسان عن الطعام، عليه أن يصوم عن الأحقاد والضغائن. إنه وقت مثالي لمراجعة النفس، وللتسامح مع الآخرين، ولبدء صفحة جديدة خالية من المشاحنات. فكم من قلوب تصلحت في رمضان، وكم من صداقات عادت إلى مسارها الصحيح، وكم من عائلات لمّ شملها بفضل روح هذا الشهر المبارك الذي يدعو إلى الصفح والمغفرة.

ولا يمكن الحديث عن رمضان دون التطرق إلى صلاة التراويح، تلك اللحظات التي تمتزج فيها الروحانية بالطمأنينة، حيث يقف المسلم بين يدي الله، يرفع صوته بالدعاء، ويشعر بانسجام كامل مع الكون من حوله. إنها لحظات لا يشعر بها إلا من عاشها، حيث السكينة تعم المكان، والقلوب تسبح في ملكوت من الصفاء الروحي. وما أجمل ذلك الشعور عندما يتحد الناس في قيام الليل، فتختفي الفوارق بينهم، ويصبح الجميع متساوين في طلب الرحمة والمغفرة.

في ظل الحياة العصرية التي تتسم بالسرعة والانشغال الدائم، يأتي رمضان ليعيد الإنسان إلى طبيعته، فيذكّره بضرورة التوازن بين الروح والجسد، وبين المادة والقيم. إنه وقت للتأمل والهدوء، وفرصة للابتعاد عن الضوضاء والانغماس في لحظات من الصفاء الذهني والتواصل مع الذات. ومن هنا، نجد أن الكثير من الناس يبتعدون عن مواقع التواصل الاجتماعي، ويقللون من الانشغال بالهاتف والتلفاز، ليمنحوا أنفسهم فرصة للتفكر والتأمل في معاني الحياة الحقيقية.

ومع اقتراب نهاية الشهر، يشعر الصائم بحزن غريب، فهو يودع أيامًا من القرب إلى الله، وليالي من الروحانية الخالصة. لكنه في الوقت ذاته يخرج من هذا الشهر بشخصية جديدة، أكثر نضجًا وقوة، وأكثر صبرًا وتحمّلًا. فالصيام ليس مجرد عبادة، بل هو تجربة متكاملة تعيد تشكيل الإنسان داخليًا، وتجعله أكثر إدراكًا لقدراته، وأكثر وعيًا بأهمية التحكم في شهواته وانفعالاته.

رمضان هو أكثر من مجرد شهر في التقويم، إنه محطة سنوية تعيد ضبط حياة الإنسان، وتمنحه فرصة نادرة للارتقاء بروحه، واكتشاف مكامن القوة في نفسه. هو مدرسة يتعلم فيها الصائم الصبر والعطاء والرحمة، ليخرج منها إنسانًا أفضل، وأكثر استعدادًا لمواجهة الحياة بتحدياتها وتقلباتها. ومع كل يوم من أيامه، يدرك المسلم أن الصبر ليس مجرد احتمال الألم، بل هو فن في ضبط النفس، وأن الأجر لا يأتي فقط من العبادات، بل من التغيير الإيجابي الذي يحدث داخل النفس.

 

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك