أنتلجنسيا المغرب:الهدهد المغربي
في تطور جديد ومثير لملف الفساد المالي والإداري الذي هز جماعة الفقيه بنصالح، عرفت جلسة محاكمة مثيرة بغرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء محاصرة أحد أبرز التقنيين الجماعيين بأسئلة دقيقة وصارمة من طرف رئيس الهيئة القضائية علي الطرشي، في قضية تتعلق بشبهات اختلالات مالية وتلاعبات خطيرة في صفقات عمومية تمت تحت إشراف الرئيس السابق للمجلس الجماعي، محمد مبديع، الوزير الحركي السابق.
هذا الملف الثقيل الذي بات يرمز إلى “صندوق أسرار” لسنوات طويلة من التدبير الجماعي المشوب بالفساد، بدأ يطفو إلى السطح بتفاصيل أكثر دقة، خصوصاً بعد أن كشف التقني الجماعي المدعو “محمد.ب” عن معطيات تُورط مباشرة رئيس الجماعة السابق، وتكشف عن منظومة شبه ممنهجة من العبث بالمال العام وتضخيم نفقات مشاريع الأشغال العمومية بالمدينة.
محاصرة قضائية بتهم التلاعب ورفع الأسعار
التقني الجماعي وقف أمام هيئة المحكمة محاصراً بوابل من الأسئلة الصارمة، خصوصاً حول ارتفاع مهول وغير مبرر في أثمان مواد البناء التي تم التصريح بها، وكذا إدراج أشغال ضمن دفاتر التحملات والمراقبة التقنية، رغم أنها لم تُنجز على أرض الواقع. كما شملت التحقيقات تضخيمات غير مبررة في فواتير الأشغال الخاصة بالصخور وتهيئة الأزقة، في ما يشبه محاولة لإضفاء الشرعية على مصاريف وهمية.
وقد أكد القاضي علي الطرشي خلال استنطاقه للمتهم أن الوثائق والمستندات التقنية تشير إلى وجود تفاوتات صارخة بين المنجزات الميدانية والفواتير المقدمة، مما يُسائل المسؤولية الإدارية والتقنية للجماعة، ويطرح أكثر من علامة استفهام حول الجهات التي كانت توجه سير الأشغال وتسهر على تمرير الصفقات.
أصابع الاتهام تتجه إلى مبديع مباشرة
في لحظة مفصلية خلال الجلسة، سُئل التقني الجماعي عن مصدر التعليمات التي كانت تصله فيما يتعلق بتحديد الأولويات والمشاريع التي تُنجز على أرض الواقع، فكان جوابه صريحاً: “كنت أتلقى التعليمات من محمد مبديع، بصفته رئيس المجلس الجماعي، وأيضا من رئيس المصلحة التقنية التي أشتغل بها”. وأضاف المتهم أن التوجيهات كانت تُمنح بشكل مباشر خلال الاجتماعات التقنية الخاصة أو عبر أوامر شفوية تتعلق بالأحياء والشوارع التي ستشملها الأشغال.
هذا التصريح، وإن لم يكن صادماً لمن تابع مسار تدبير جماعة الفقيه بنصالح، إلا أنه اعتُبر بمثابة تأكيد رسمي من داخل الجهاز التقني للجماعة على وجود تدخل مباشر ومركزي من طرف مبديع في تدبير الصفقات وتوجيه المال العمومي نحو مشاريع لا تخضع بالضرورة لأولويات السكان، بل ربما لمصالح خاصة أو أهداف سياسية ظرفية.
من الجماعة إلى قفص الاتهام.. هل يفتح الملف على مصراعيه؟
محمد مبديع، الوزير السابق الذي راكم تجربة طويلة في مناصب حكومية وانتخابية متعددة، يواجه اليوم تهمًا ثقيلة تهدد بتقويض كل ما بناه سياسياً داخل حزب الحركة الشعبية. وقد سبق أن تم توقيفه مؤقتاً في إطار تحقيقات سابقة، ليجد نفسه الآن في قلب عاصفة قضائية، بعدما بدأت الدلائل والشهادات تنسج خيوط مسؤولية مباشرة له في تدبير صفقات تحوم حولها رائحة تبديد المال العام واستغلال النفوذ.
وبينما تتوسع التحقيقات لتشمل فاعلين جماعيين وتقنيين آخرين، يُطرح السؤال الكبير: هل سيتحول ملف الفقيه بنصالح إلى نموذج وطني لمحاربة الفساد السياسي والإداري؟ أم أن المسطرة ستُطوى كما طُويت ملفات أخرى سبقتها رغم الأدلة والضغوط المجتمعية؟
الشارع يتابع.. والثقة في المحك
لا يخفى أن هذا الملف يتابعه الرأي العام الوطني بكثير من الترقب، بالنظر إلى رمزية الأسماء المتورطة، وحجم الاختلالات المعلنة. كما أن ساكنة الفقيه بنصالح التي ظلت تُمنّى بتنمية حقيقية وفرص عادلة لعقود، ترى في هذا المسار القضائي أملاً أخيراً في استرجاع ما ضاع من ثروات وفرص.
الملف لم يُغلق بعد، والنيابة العامة تؤكد أنها تواصل البحث في خيوط أخرى قد تمتد إلى مقاولين ومستشارين جماعيين ومسؤولين إداريين. لكن المؤكد هو أن هذه القضية أعادت فتح النقاش حول ضرورة تشديد الرقابة على الصفقات العمومية، وتفعيل مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، ليس فقط كشعار دستوري، بل كممارسة يومية تحمي المال العام وتعيد الثقة في المؤسسات.
العدالة تفتح أبوابها في وجه الفساد الجماعي
قضية جماعة الفقيه بنصالح ليست مجرد ملف تقني مالي، بل هي عنوان صارخ لفشل منظومة محلية كانت تمثل، بالنسبة للبعض، نموذجاً للسلطة الانتخابية المتجذرة في مواقعها، والمحمية بعلاقات حزبية وسياسية معقدة. واليوم، يبدو أن تلك الحماية بدأت تتآكل، وأن العدالة عازمة على فتح كل الملفات، مهما كانت الأسماء والعناوين.
الأعين الآن كلها تتجه نحو محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، حيث تتكشف فصول “دراما الفساد” التي قد تعيد رسم خريطة المسؤوليات في تدبير الشأن العام المحلي، ليس فقط في الفقيه بنصالح، بل في جماعات كثيرة تعتبر نفسها فوق القانون.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك