أنتلجنسيا المغرب:هيئة التحرير
في كل عام، ومع حلول شهر رمضان المبارك، تشهد الأسواق المغربية إقبالًا غير مسبوق على المواد الغذائية، حيث تتضاعف المشتريات وتتحول موائد الإفطار إلى ولائم عامرة بمختلف الأطباق التقليدية والعصرية.
لكن وسط هذا البذخ الغذائي، يبرز مشهد آخر لا يقل أهمية، وهو الهدر الغذائي، حيث تُرمى أطنان من الطعام في القمامة يوميًا، في مفارقة صارخة بين ثقافة الكرم والتبذير.
أرقام صادمة: المغرب يهدر ملايين الأطنان من الطعام سنويًا
وفقًا لتقارير دولية، يعد المغرب من بين أكبر الدول العربية من حيث حجم الهدر الغذائي، حيث يُقدَّر أن المغاربة يهدرون حوالي 3 ملايين طن من الطعام سنويًا، أي ما يعادل 45 كيلوغرامًا للفرد سنويًا. وتزداد هذه الأرقام بشكل ملحوظ خلال شهر رمضان، إذ تشير الإحصائيات إلى أن نسبة الهدر ترتفع بنسبة 50% مقارنة بباقي أشهر السنة.
المثير للدهشة أن هذا الهدر لا يقتصر فقط على الأسر المغربية، بل يمتد إلى المطاعم والفنادق والأسواق الكبرى، حيث تُرمى كميات هائلة من الطعام بسبب سوء التخزين، أو عدم استهلاكه في الوقت المناسب، أو ببساطة نتيجة العادات الاستهلاكية المفرطة التي تتجلى بوضوح في هذا الشهر الفضيل.
العوامل التي تؤدي إلى تفاقم الهدر الغذائي في رمضان
تتعدد أسباب الهدر الغذائي في المغرب، لكن في رمضان، تصبح العوامل المؤدية إليه أكثر وضوحًا، ومنها:
الإفراط في الشراء: يسود الاعتقاد لدى العديد من الأسر المغربية بأن شهر رمضان يحتاج إلى كميات أكبر من الطعام، مما يؤدي إلى اقتناء مواد غذائية تفوق الحاجة الفعلية، وسرعان ما ينتهي بها المطاف في القمامة بسبب انتهاء صلاحيتها أو عدم استهلاكها.
المبالغة في تحضير الأطباق: يعتبر المغرب بلدًا غنيًا بتقاليده الغذائية، وتظهر هذه العادات بشكل جلي خلال رمضان، حيث يتم إعداد مائدة إفطار فاخرة تضم أطباقًا متعددة مثل الحريرة، البريوات، الشباكية، السلو، والمسمن، بالإضافة إلى العصائر والفواكه الجافة. لكن المشكلة تكمن في أن الكميات المحضّرة غالبًا ما تكون أكبر من قدرة العائلة على استهلاكها، فينتهي جزء كبير منها في سلال القمامة.
عدم الاستفادة من بقايا الطعام: على عكس بعض الدول التي تعتمد سياسات لإعادة تدوير الطعام أو توزيع الفائض على المحتاجين، يفتقر المغرب إلى آليات منظمة لتدبير بقايا الطعام، ما يجعل جزءًا كبيرًا منه يُرمى بدلاً من إعادة استخدامه بطرق مبتكرة.
غياب الوعي بخطورة الهدر: رغم أن الإسلام يحث على الترشيد وعدم التبذير، إلا أن العديد من المغاربة لا يدركون حجم الضرر البيئي والاقتصادي للهدر الغذائي. فبينما تُهدر كميات هائلة من الطعام، هناك آلاف العائلات التي تعاني من الفقر المدقع وتكافح من أجل توفير وجبة إفطار بسيطة.
الجانب الاقتصادي.. خسائر بالمليارات
الهدر الغذائي لا يؤثر فقط على الأمن الغذائي، بل يسبب أيضًا خسائر اقتصادية فادحة، إذ تُقدَّر قيمة الطعام المهدور في المغرب بحوالي 5 إلى 6 مليارات درهم سنويًا. هذه الأموال التي تُهدر في الطعام كان يمكن استثمارها في مشاريع اجتماعية وتنموية لمساعدة الأسر الفقيرة وتحسين جودة الحياة.
كما أن الهدر الغذائي ينعكس سلبًا على سلسلة الإنتاج والتوزيع، حيث يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وزيادة الضغوط على المزارعين والمنتجين والمستهلكين على حد سواء.
الأثر البيئي.. كارثة صامتة
من الناحية البيئية، فإن الهدر الغذائي يفاقم مشكلة التغير المناخي والتلوث، حيث أن الطعام المهدور ينتهي في مكبات النفايات، ويتحلل مسببًا انبعاث غازات ضارة مثل الميثان، الذي يُعتبر من الغازات الدفيئة المساهمة في الاحتباس الحراري.
كما أن إنتاج الطعام بحد ذاته يستنزف موارد طبيعية هائلة مثل المياه والطاقة، مما يعني أن كل كيلوغرام من الطعام المهدور يُمثل إهدارًا غير مباشر لهذه الموارد الثمينة.
هل يمكن الحد من الهدر الغذائي في رمضان؟
رغم خطورة المشكلة، إلا أن هناك العديد من الحلول التي يمكن أن تحدّ من الهدر الغذائي، ومنها:
التخطيط الجيد للوجبات: قبل التوجه إلى الأسواق، ينبغي لكل أسرة وضع قائمة محددة بالمشتريات، مع تفادي شراء كميات زائدة عن الحاجة.
الاقتصاد في الطبخ: يمكن تحضير كميات معتدلة من الطعام تتناسب مع عدد أفراد العائلة، وتجنب إعداد أطباق إضافية لا يتم استهلاكها.
إعادة تدوير بقايا الطعام: هناك العديد من الوصفات التي تتيح الاستفادة من بقايا الطعام، مثل تحويل الخبز الجاف إلى فتات يُستخدم في الطهي، أو إعادة استخدام الدجاج واللحوم في أطباق أخرى.
التبرع بالفائض: يمكن للأسر والمطاعم والفنادق التعاون مع الجمعيات الخيرية لتوزيع الطعام الفائض على الفقراء والمحتاجين بدلًا من رميه.
حملات توعية وطنية: يجب على الدولة والمجتمع المدني تنظيم حملات إعلامية وتثقيفية لتوعية المواطنين بمخاطر الهدر الغذائي، وتشجيعهم على تبني عادات استهلاكية أكثر استدامة.
هل تتحرك السلطات؟
رغم أن المغرب أطلق في السنوات الأخيرة مبادرات لمكافحة التبذير الغذائي، إلا أن الجهود لا تزال محدودة مقارنة بحجم المشكلة. وعلى غرار بعض الدول الأوروبية، يمكن للمغرب تبني قوانين تُلزم المتاجر والمطاعم والفنادق بالتبرع بالطعام الفائض بدلاً من التخلص منه.
كما يمكن تعزيز الاقتصاد الدائري عبر دعم مشاريع إعادة تدوير النفايات العضوية وتحويلها إلى أسمدة طبيعية أو طاقة حيوية.
رمضان فرصة لتغيير العادات لا لتعزيز التبذير
في الوقت الذي يُفترض أن يكون رمضان شهر الصيام والتقشف، تحول عند البعض إلى شهر الاستهلاك المفرط والإسراف في الطعام، وهو تناقض صارخ مع القيم الدينية والأخلاقية. الهدر الغذائي ليس مجرد مسألة فردية، بل هو تحدٍ اقتصادي وبيئي واجتماعي يتطلب وعيًا جماعيًا وإجراءات صارمة من قبل الدولة والمجتمع المدني.
إذا لم يتم اتخاذ تدابير جدية، فسيستمر المغرب في فقدان موارد هائلة، في وقت تحتاج فيه شريحة كبيرة من المواطنين إلى دعم غذائي حقيقي، وليس إلى مظاهر البذخ التي تنتهي في القمامة.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك