أنتلجنسيا المغرب:أبو فراس
في ظلال الحقول الخضراء المترامية بإقليم هويلفا الإسباني، حيث تُزرع الفراولة وتُصدر إلى مختلف أنحاء أوروبا، تختبئ واحدة من أبشع صور الاستغلال البشري في العصر الحديث.
آلاف النساء، معظمهن مغربيات، يعبرن البحر بحثًا عن لقمة العيش، ليجدن أنفسهن عالقات في دوامة من الانتهاكات، تتراوح بين الاستغلال المادي والجسدي، والتحرش، وحتى الاعتداءات الجنسية.
ورغم أن هذه القضية ليست جديدة، فإن تفاصيلها الصادمة لا تزال تكشف عن وجه قاتم لما يسمى بـ"عقود العمل الموسمية" التي تحولت إلى سجن بلا جدران للنساء الباحثات عن حياة كريمة.
رحلة الأمل التي تتحول إلى كابوس
كل عام، تتوافد آلاف النساء المغربيات إلى إسبانيا، بموجب عقود عمل موسمية لجني الفراولة، حيث يُروج لهذا البرنامج على أنه فرصة ذهبية للنساء القادمات من الأرياف المغربية. وفقًا للشروط الرسمية، يجب أن تكون العاملات متزوجات ولديهن أطفال، لضمان عودتهن إلى المغرب بعد انتهاء الموسم. لكن ما يُخفيه هذا النظام هو الاستغلال الفادح الذي تتعرض له هؤلاء النساء، منذ لحظة وصولهن إلى الحقول الإسبانية.
بمجرد وصولهن، تُسحب جوازات سفرهن، ويجدن أنفسهن مقيدات داخل مزارع معزولة، تحت سيطرة مشغّلين يتعاملون معهن كما لو كن مجرد أدوات إنتاج، وليس بشرًا يتمتعون بحقوق إنسانية. تبدأ المعاناة بساعات العمل الطويلة والشاقة في ظروف قاسية، حيث تضطر النساء إلى الانحناء لقطف الفراولة لساعات متواصلة تحت أشعة الشمس الحارقة، مقابل أجور متدنية لا تتناسب مع المجهود المبذول.
تحرش، ابتزاز واعتداءات.. جحيم العاملات في الحقول
ليست ظروف العمل الصعبة وحدها ما تعانيه النساء في هذه الحقول، بل يتحول المكان إلى مسرح لممارسات استغلالية بشعة. عشرات التقارير والشهادات كشفت عن انتشار التحرش الجنسي والاعتداءات الجسدية ضد العاملات، حيث يُمارس عليهن ضغط رهيب من قبل أرباب العمل والمشرفين، مستغلين حاجتهن للعمل وخوفهن من فقدان مصدر رزقهن الوحيد.
العديد من النساء تحدثن عن تعرضهن لابتزاز مباشر، حيث يُفرض عليهن "تقديم تنازلات" مقابل الاحتفاظ بوظائفهن. في بعض الحالات، يُجبرن على تلبية "طلبات غير أخلاقية" تحت التهديد بالطرد أو التبليغ عنهن للسلطات، مما قد يؤدي إلى ترحيلهن فورًا.
الأسوأ من ذلك، أن بعض المشغلين يفرضون على العاملات العيش في مساكن جماعية قذرة، دون أدنى احترام للكرامة الإنسانية، حيث تُمنع النساء من مغادرة المزرعة أو التواصل مع العالم الخارجي، مما يجعلهن عرضة لمزيد من الاستغلال دون إمكانية طلب المساعدة أو فضح ما يتعرضن له.
عقود موسمية أم استعباد مقنن؟
رغم أن عقود العمل الموسمية تبدو على الورق كوسيلة منظمة لجلب اليد العاملة، فإن الواقع يكشف عن نظام استعباد حديث مقنن، حيث يُجبرن العاملات على توقيع عقود لا يفهمنها جيدًا، وغالبًا ما تكون بلغة أجنبية لا يقرأنها. وعند وصولهن إلى إسبانيا، يواجهن شروط عمل مختلفة تمامًا عن تلك التي وُعدن بها في المغرب.
المثير للصدمة أن الحكومتين الإسبانية والمغربية على دراية بهذه الانتهاكات، لكن التدخلات تبقى محدودة، وغالبًا ما تخضع لضغوط لوبيات الفلاحة والتصدير، التي تستفيد من بقاء الوضع على ما هو عليه لضمان يد عاملة رخيصة وخاضعة.
نساء متزوجات في دائرة الخطر
حتى النساء المتزوجات، اللواتي يُفترض أن وضعهن الاجتماعي يحميهن من الاستغلال، لم يسلمن من هذه الانتهاكات. بعضهن تعرضن لممارسات مشينة، حيث تفيد تقارير بأن بعض النساء اضطررن إلى ممارسة أعمال مشينة تحت التهديد، بينما اضطر أخريات إلى الهروب والعيش في أوضاع مزرية خوفًا من الانتقام.
بعض النساء اللاتي تمكنّ من الفرار قررن كشف المستور، مما أدى إلى اعتقال بعض المشغلين المتورطين في الاعتداءات، لكن معظم الضحايا لا يجرؤن على التحدث خوفًا من العار أو من الانتقام في بلدهن الأصلي، حيث يُنظر إلى الأمر باعتباره "فضيحة" أكثر من كونه جريمة يجب معاقبة مرتكبيها.
فضائح مدوية.. وأين الرقابة؟
رغم فضح العديد من هذه الممارسات في تقارير صحفية ومنظمات حقوقية، إلا أن الوضع لا يزال كما هو. فالرقابة على هذه المزارع شبه منعدمة، حيث يتم التستر على الانتهاكات من قبل بعض الجهات النافذة في قطاع الفلاحة، والتي ترى في هذه العمالة الرخيصة فرصة لتحقيق أرباح طائلة.
كلما خرجت فضيحة إلى العلن، يتم امتصاص الغضب عبر فتح "تحقيقات شكلية"، لكنها سرعان ما تُطوى دون أي تغييرات جذرية تحمي هؤلاء النساء من الاستغلال المستمر. وفي بعض الحالات، تتعرض الضحايا للتهديد أو الطرد، لمنعهن من التحدث لوسائل الإعلام أو منظمات حقوق الإنسان.
هل من أمل لحماية العاملات؟
في ظل هذه المعطيات الصادمة، تتزايد المطالبات بوضع حد لهذا الاستغلال البشع. بعض الجمعيات الحقوقية في أوروبا والمغرب بدأت في الضغط على الحكومات لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة، مثل فرض رقابة دورية على المزارع، وتوفير خطط حماية للعاملات، وضمان توفير سكن إنساني وأجور عادلة لهن.
كما يطالب ناشطون حقوقيون بضرورة توفير آليات إبلاغ سرية وآمنة، حتى تتمكن الضحايا من التحدث دون خوف من الانتقام. لكن يبقى السؤال: هل ستتجاوب السلطات مع هذه المطالب، أم أن الاستغلال سيستمر تحت أعين الجميع، دون أي رادع حقيقي؟
إلى متى يستمر الصمت؟
بين وعود العمل الكريم، وواقع العبودية المقنعة، تعيش آلاف النساء المغربيات كابوسًا حقيقيًا في الحقول الإسبانية، حيث يتحول البحث عن لقمة العيش إلى معركة للبقاء على قيد الحياة. وبينما تتجاهل الحكومات هذه المعاناة، يستمر الاستغلال دون حسيب أو رقيب، في انتظار أن ينفجر الملف ويجبر الجميع على مواجهة الحقيقة المرة: أن هناك نساء يُستغللن يوميًا، في وضح النهار، أمام صمت عالمي مخزٍ.
فهل نشهد يومًا انفراجة حقيقية، أم أن النساء سيبقين ضحايا في صراع غير متكافئ بين الفقر والجشع والاستغلال؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك