هل يصرّ النظام العسكري الجزائري على معاداة التاريخ؟..إنريكو ماسياس وحنين العودة إلى قسنطينة

هل يصرّ النظام العسكري الجزائري على معاداة التاريخ؟..إنريكو ماسياس وحنين العودة إلى قسنطينة
بانوراما / الثلاثاء 18 فبراير 2025 - 23:35 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب:عبد الفتاح.ح

حنين ممنوع وقرار سياسي بامتياز

في مقابلة مؤثرة مع قناة فرنسية، عبّر المغني الفرنسي اليهودي من أصل جزائري، إنريكو ماسياس، عن ألمه العميق لعدم تمكنه من زيارة مسقط رأسه في قسنطينة، المدينة التي شهدت ولادته ونشأته قبل أن يغادرها في أعقاب استقلال الجزائر سنة 1962. ماسياس، الذي تجاوز الثمانين عامًا، أطلق نداءً يحمل شحنة عاطفية كبيرة، يناشد فيه السلطات الجزائرية السماح له بزيارة وطنه الأم قبل رحيله عن الحياة، مشددًا على أنه يسامح كل من منعه من العودة.

لكن رغم الطابع الإنساني لطلبه، لا يزال النظام العسكري الحاكم في الجزائر متشبثًا بموقفه الرافض لدخول ماسياس، في خطوة تعكس سياسة عدائية تجاه شخصيات يهودية جزائرية ارتبط اسمها بمرحلة الاستعمار الفرنسي. فهل القرار مبني على أسباب تاريخية فعلية، أم أن الأمر مجرد ورقة سياسية تُستغل في حسابات النظام الداخلية؟

قسنطينة التي لم تُمحَ من ذاكرته

وُلد إنريكو ماسياس، واسمه الحقيقي غاستون غريناسيا، سنة 1938 في قسنطينة لأسرة يهودية تنتمي للطائفة السفاردية. نشأ في بيئة موسيقية، حيث كان والده موسيقيًا، وانطلق في مسيرته الفنية متأثرًا بالتراث الموسيقي الأندلسي، الذي شكل جسراً بين الثقافات في الجزائر.

لكن استقلال الجزائر غيّر كل شيء. شأنه شأن آلاف اليهود الجزائريين، وجد ماسياس نفسه مضطرًا إلى مغادرة البلاد، خاصة بعدما تبنى النظام الجزائري سياسة أدت إلى رحيل معظم اليهود، الذين كانوا يُصنفون كمواطنين فرنسيين بموجب قانون كريميو لعام 1870. منذ ذلك الحين، ظل ماسياس يعبر عن ارتباطه العاطفي ببلده الأصلي من خلال أغانيه وتصريحاته، لكنه ظل ممنوعًا من العودة بسبب موقف الجزائر الرسمي المتشدد تجاهه.

النظام العسكري ورفض المصالحة مع التاريخ

ليس سرًا أن النظام العسكري الجزائري يتعامل بحساسية مفرطة مع كل ما يتعلق بفترة الاستعمار الفرنسي، وخاصة فيما يتعلق بالطائفة اليهودية، التي يعتبرها جزءًا من إرث الحقبة الاستعمارية. ماسياس، بكونه شخصية فنية بارزة وأحد اليهود الذين غادروا الجزائر في 1962، أصبح هدفًا لهذه السياسة الإقصائية، رغم أنه لم ينخرط يومًا في أي نشاط سياسي معادٍ للجزائر، ولم يكن طرفًا في أي صراع ضدها.

لكن النظام العسكري، الذي لطالما وظّف ملف "العدو الخارجي" لإلهاء الشعب الجزائري عن أزماته الداخلية، يرى في شخصية مثل ماسياس فرصة لتعزيز سرديته العدائية تجاه كل من له ارتباط بفرنسا. ففي الوقت الذي يعاني فيه الجزائريون من أزمة اقتصادية خانقة، وارتفاع البطالة، وانعدام الحريات، يواصل النظام استخدام قضايا مثل هذه لصرف الأنظار عن المشاكل الحقيقية، متجاهلًا بذلك بعدًا إنسانيًا وثقافيًا يمكن أن يكون جسراً للمصالحة بدلًا من استمرار القطيعة.

لماذا يرفض النظام الجزائري دخول ماسياس؟

عدة أسباب تجعل السلطات الجزائرية متشددة في موقفها تجاه ماسياس، رغم طابعه الفني والثقافي:

العداء التقليدي لكل ما يرتبط باليهود والفرنسيين: النظام العسكري يتبنى خطابًا يُصور اليهود كجزء من "المؤامرة الصهيونية"، وهو خطاب يستغله لإثارة المشاعر القومية والشعبوية.

علاقته بإسرائيل: رغم أن ماسياس لم ينخرط بشكل مباشر في السياسة الإسرائيلية، إلا أن زياراته المتكررة إلى إسرائيل ودعمه للسلام بين العرب والإسرائيليين جعله في مرمى انتقادات النظام الجزائري، الذي يتبنى رسميًا موقفًا مناهضًا لإسرائيل.

الاستفادة السياسية من منعه: بقاء ماسياس خارج الجزائر يُتيح للنظام مواصلة الترويج لسردية "الاستعمار والعدو الخارجي"، وهي ورقة يعتمد عليها في تبرير إخفاقاته الداخلية.

فرنسا على علم… لكنها لا تتدخل

في مقابلته، أكد ماسياس أن الحكومة الفرنسية على علم برغبته في زيارة الجزائر، لكنه لا يريد أي تدخل سياسي في الأمر. هذا التصريح يعكس إدراكه لحساسية الموضوع، خاصة في ظل التوترات المستمرة بين الجزائر وفرنسا بشأن الذاكرة الاستعمارية.

لكن في المقابل، يظهر أن باريس لا ترغب في الضغط على الجزائر بخصوص هذه القضية، رغم أن ماسياس يُعد من الشخصيات الثقافية الفرنسية البارزة. فمن الواضح أن العلاقات بين البلدين تمر بمرحلة شد وجذب، حيث تُفضل فرنسا تفادي التصعيد في مثل هذه القضايا، خوفًا من أن تؤدي إلى تفاقم التوترات الدبلوماسية مع الجزائر، التي ما تزال تملك أوراق ضغط في ملف الطاقة والهجرة.

هل سيسمح له بالعودة يومًا ما؟

سؤال يظل مفتوحًا، لكن بالنظر إلى سياسات النظام الجزائري الحالي، يبدو أن فرص ماسياس في زيارة مسقط رأسه قبل وفاته ضئيلة جدًا. فالنظام، الذي يرفض أي شكل من أشكال المصالحة مع تاريخه، لن يقدم بسهولة على خطوة كهذه، خاصة إذا لم يكن هناك مكسب سياسي واضح منها.

ومع ذلك، يبقى السؤال الأكبر: إلى متى سيظل النظام العسكري الجزائري عالقًا في عقدة الماضي؟ في الوقت الذي تتجه فيه دول كثيرة نحو المصالحة والتعايش، يواصل حكام الجزائر تكريس سياسة الإقصاء والانغلاق، متجاهلين أن الهوية الجزائرية، مثلها مثل كل الهويات الوطنية، هي نتاج تفاعل تاريخي وثقافي لا يمكن إنكاره أو محوه بقرارات سياسية قصيرة النظر.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك