فين أيام رمضان بالنفار والطبال وخالي العايدي...؟

فين أيام رمضان  بالنفار والطبال وخالي العايدي...؟
مجتمع / الإثنين 03 مارس 2025 21:10 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب:فهد الباهي/إيطاليا

يركب حماره الأشهب وعلى ظهره حمالتان مصنوعتان من قشاش الأرض "الشواري"، يمشي الحمار المدرب بالعرض البطيء، يتمايل مع الحمالتين على ظهره، يتبعه كلب قد انتفخ بطنه من كرم الناس وجودهم في شهر رمضان ببقايا الطعام، يحمل في يده آلة موسيقية مصنوعة من قرن الجاموس، عبارة عن "غيطة"، ينفخ فيها بحرارة حتى "تتجبد خديه مزيان"، فتصبح أشبه ببلونتين مملوءتين بالهواء.

يداعب "غيطة" ويخرج منها أنغامًا مختلفة، بهزات وخفقان تنفسه الصدري وتماوج "حنكيه"، ويصنع مقطوعات موسيقية سحرية تخبر الناس أن موعد السحور قد وصل. طبعًا إنه "النفار" أو المسحراتي.

لكل حومة "نفارها" الخاص بها، يوقظ النيام للسحور بطريقته، إما بالغيطة أو بالقرع على الطبل. كان للمسحراتي حظوة واحترام كبير عند الناس في زمننا، كل سكان الحارة يحبونه ويحترمونه، يحبون فيه الطيبة والوفاء وأداء الواجب بأمانة كل يوم وطيلة شهر رمضان الكريم. الناس يعطفون ويجودون عليه (النفار) وحماره وكلبه .

 في هذا الشهر الفضيل، "النفار" يستفيد من قطع "الحساء ولشباكية والحلوة" والرغيف "والسفوف"، والحمار يستفيد من قشر البطيخ والخضر التي يطبخ منها طعام السحور، مثل البطاطس والجزر والخرشوف الشوكي، أما الكلب فحظه بقايا الخبز المطلية "بالحريرة"، التي توضع عمدًا فوق قطع بلاستيكية لإطعام الكلاب المتواجدة في كل مكان بالأزقة والدروب، ويمضون شهر رمضان كاملاً على هذا الحال.

شباب الحومة يتربصون بخالي "العايدي" رحمه الله، وينتظرون بفارغ الصبر قدومه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر. رجل ذو وقار واحترام، جمعه حب الخير والناس، بطيبته وعفويته "ما يخسر خاطر حد". شباب الحومة يتصيدون العجوز ويمسكونه بالقوة، يجبروه على أداء رقصة "الهيت" تحت أنغام "غيطة النفار"، ممزوجة بتصفيقات الأيادي بحرارة وأنغام بالأفواه والشفاه "هب هب هوباه هوباه".

وأخيرًا يستسلم "خالي العايدي" أمام هذه الأنغام وهذا الجو الحماسي الجميل (الحال ما يشاور)، يستسلم أمام هوسه بالرقص على إيقاع "الهيت الغرباوي"، ويبدأ بحركات تسخينية بالكتف، ثم يلتفت يمنة ويسرة وينفخ ريشه كديك منفوش، وتارة كفرس في "المحرك".

يخرج صدره ويرفع رأسه عاليًا كأنه يرمز للتصدي والتحدي والعزة والأنفة، وأخرى كثور ينطح ويضرب الأرض برجليه بقوة، ويعود للشباب في رمشة عين متحديًا الشيخوخة.

يتغير الإيقاع ويتحول إلى فارس على صهوة جواده، ويتفنن في صنع لوحات من التراث الأصيل "حتى كيشبع"، وكل الذين من حوله يفرحون ويزيدون في حرارة التصفيق ليزيد هيجان وحماس "خالي العايدي"، ليمضي أطول وقت معنا.

ثم يرفع يديه إلى السماء ويدعو على اليهود ويقول: "ما ضحكناه وما عرقناه وما جدبنا والرما والطلبة وكتاب الله يدمرو اليهود". ويسترسل "خالي العايدي" قائلًا: "الله يفك الأسر ديال خوتنا المسلمين في فلسطين..."، ثم يخرج قروشًا من جيبه ويقبل رأس "النفار" ويسلمها له خفية "مع التسليمة" في يده، ودائمًا يطلب السماح من الجميع وهو لم يرتكب ذنبًا، "سمحو ليا وليداتي الله يسهل عليكم".

 يقترب أذان الفجر ويغادر بابتسامته المشرقة، وإذا ألح عليه الشباب مرة أخرى بإعادة رقصة "الهيت" التي يتقنها ببراعة، يهرب جريًا ليحتمي ببيت الله، المسجد.

بعدها، يركب "النفار" أو المسحراتي ظهر حماره، ويتبعه كلبه ويمضي طربًا بين الدروب والأزقة على هذا الحال كل يوم، إلى آخر يوم في شهر رمضان، ثم يطوف على البيوت ليجمع حفنات الطحين وقطع السكر وقطرات الزيت وحبوب الشاي وبعض القروش كأجر أو هدية مقابل مهمة قضاها طيلة شهر رمضان.

اليوم، تقوم هواتفنا الذكية عن طريق الرنات الغنائية المسجلة بعمل "النفار" أو المسحراتي.

بدلنا "النفار" وتقاليدنا الشعبية الجميلة بالهواتف الذكية، حقًا اشتقنا لسماع "غيطة وطبل النفار"، وللبسمة التي تعطي نفسًا حقيقيًا للحياة.

فلا طعم للحياة بدون ابتسامة وموسيقى.

كانت الحياة جميلة، كلها طرب ورقص وحب وعبادة، كل شيء متداخل وممزوج وله طعم.

لم يكن التحريم لمعاني الحياة التي تتجلى في مظاهر الفرح والرقص والحب بالكره والقتل والتفجيرات الجبانة، كنا بسطاء لا نهتم بمرجعيات أو خلفيات أو مذاهب، فقط كانت الفرحة والابتسامة مع البسطاء من أمثال "النفار وخالي العايدي

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك