مغربنا 1 المغرب عن مركز نهوض للدراسات والابحات
تقديم
يحظى موضوع التحول الديني بأهمية دالة في البحث السوسيولوجي بشكل عام، خاصة مع توالي الدراسات المُنْجَزة في هذا الإطار، ومحاولتها فهم وتفسير إشكالية تغيير المعتقد الديني، والتحول من عقيدة إلى أخرى، بالبحث وراء الدوافع والشروط والآليات التي تمثِّل عوامل مساهمة/دافعة للأفراد نحو هذه الظاهرة، فضلًا عمَّا ينتج عنها من مسارات تشكيل وبناء الهوية الدينية المنعكسة على الهوية الاجتماعية والسياسية، ضمن محطات من التدبير الاجتماعي للعلاقة مع الآخر، ومدى قدرة الحفاظ على الرابط الاجتماعي. ولعل التناول السوسيولجي لهذه الظاهرة يعتبر لاحقًا على التناول السيكولوجي[1]، حيث إن الدوافع النفسية والذاتية لم تكن وحدها قادرة على تمكيننا من استيعاب الجوانب المختلفة، مع وجود بنيات اجتماعية وثقافية لها دورها البارز في بناء هذه التجربة وتشكيل هذا المسار، خاصة في جانب الأثر الذي يخلِّفه التحول الديني على مستوى المحيط الاجتماعي وإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية، الأمر الذي يسعى من خلاله المتحولون إلى بناء استراتيجيات خاصة بهم في رسم هذه العلاقات وتقويتها.
وتبرز أهمية هذه الدراسة المتواضعة من خلال تفرُّدها بموضوع لم يحظَ إلى اليوم بكثير من الدراسة والبحث. فالتحول من دين أو مذهب لآخر يعدُّ أحد الطابوهات الثيولوجية والمجتمعية ذات الحساسية في المجتمعات العربية عمومًا والمجتمع المغربي خصوصًا، على الرغم من التناول الإعلامي المتصاعد لهذه الظاهرة، مما أُثِير معه كثير من التساؤلات والتمثُّلات المختلفة حول الشروط والبواعث الدافعة لأفراد من المجتمع لتغيير عقيدتهم الدينية. لذلك، فمحاولتنا هذه تسعى لنقل هذه التساؤلات من الحس المشترك، وتحويلها إلى معطى علمي وأكاديمي، عبر التناول البحثي لها وفق قواعد البحث السوسيولوجي.
ويُبرز موضوع التحول الديني عددًا من التحديات المنهجية، من حيث المقاربة المعتمدة لتحقيق الدراسة الميدانية، خاصة التداخل السيكولوجي والسيوسيوأنثروبولوجي في مقاربة هذه الظاهرة، باعتبار أن التحول هو نتاج قرار فردي تتداخل فيه الأبعاد النفسية والاجتماعية والفكرية والثقافية، خاصة إن ارتبط بالفرد بشكل ذاتي دون أي تفاعل مع محيطه الاجتماعي، أو بدون سعي للبحث عن مخارج هوياتية تضمن نوعًا من الاستقرار الاجتماعي في بيئة اجتماعية مختلفة من الناحية الثقافية والعقدية، حيث يتشكَّل البُعد الفردي في السعي نحو مسار التحول الديني بعملية اتخاذ القرار، والشروط التي أسهمت في بروزه أيضًا، حيث تتعدَّد التأثيرات بين النفسي والفكري والثقافي والأيدولوجي والسياسي والديني وغيره. وهنا تَكمُن الصعوبة المنهجية من جهة قدرة الباحث على استجلاب المقاربة الدقيقة التي تُمكِّنه من دراسة الموضوع دراسة سوسيولوجية، دون أي تداعيات للمقاربة السيكولوجية، أو التماهي في التحليل الثيولوجي للموضوع. لذلك، استلزم منا هذا البحث إدماج البعد الفردي/الذاتي في سياقاته الاجتماعية، وصلته العلائقية مع المحيط الاجتماعي، أي ضمن دينامية اجتماعية يكون الفرد جزءًا منها.
وقد وقع اختيارنا على المنهج الكيفي من خلال اعتماد تقنية سير الحياة، وقد أُجْرِيت مع عينة من (7) مغاربة عايشوا تجربة الانتقال العقدي من التدين السني إلى التدين الشيعي، يتوزعون على ثلاث مدن مغربية، وهي: وجدة (شرق المغرب)، والرباط (العاصمة)، والدار البيضاء (غرب المغرب/العاصة الاقتصادية). ومكَّنتنا تقنية سير الحياة من تصنيف معطيات المُستَجوَبِين إلى مراحل حياتية مختلفة منذ الولادة وحتى مرحلة إنجاز البحث، ما ساعدنا في مقارنة المعطيات وربط المتغيرات، وفهم شروط إنتاج مسار التحول ضمن صيرورة حياتية، وأيضًا بغية جمع معطيات كثيفة تمكِّننا من الانتقال إلى مرحلة الترميز والتحليل مستعينين بالنظرية المتجذرة [2]Grounded theory. كما أن تناولنا لظاهرة الشيعة والتشيع في المغرب ناتج عن الديناميات والتفاعلات البارزة التي أصبح يشكلها الوجود الشيعي مع صعوده المتنامي، سواء من الناحية الإعلامية أو من حيث التفاعل الاجتماعي والسياسي، وأيضًا مع صدور تقارير مهمة حول أعداد الشيعة وتمركزهم الجغرافي ونشاطهم الدعوي و«التبشيري»، وأيضًا لبروز عدد من التيارات الشيعية بالمغرب التي أعلنت عن وجودها، وعمدت إلى تأسيس جمعيات مدنية ومؤسسات دعوية، محاولة فرض وجودها ومطالبة في الوقت نفسه بالاعتراف بها قانونيًّا، والسماح لأعضائها بحرية المعتقد الديني والنشاط المجتمعي، وذلك في ظل مجتمع مختلف من الناحية العقدية. فما هي -إذن- الشروط والآليات المسهمة في بناء مسارات وتجربة التحول الديني للشيعة المغاربة من التدين السني إلى التدين الشيعي؟
وللإجابة عن هذه الإشكالية، سنعرض عبر هذه الدراسة أربعة محاور أساسية، الأول: يرتبط بمفهوم التحول الديني وخلفياته النظرية، من خلال تقديم قراءة إبستيمولوجية لأهم مقارباته ونظرياته التحليلية، أما المحاور: الثاني والثالث والرابع، فتعرض نتائج البحث الميداني، سواء فيما يرتبط بتحولات ما قبل التحول عبر البحث عن الذات أو «الحقيقة الغيبية»، والانخراط التنظيمي والتديني في جماعات دينية لتمحيص مرحلة البحث وتحقيق «اللحظة الشكِّية»، ثم المرور إلى ثلاثية التحول الديني المرتبطة بمراحل «القطيعة وتجاوز اللحظة الشكية»، و«تعميق المعرفة المذهبية» و«تثبيت المرجعية الدينية». لنصل إلى المحور الرابع والأخير، وفيه تحديد للشروط والآليات المسهمة في التحول الديني وعملية الانتقال من المذهب السني إلى المذهب الشيعي.
أولًا: مفهوم التحول الديني (التفكير في الخلفيات النظرية)
إن مقاربة الظاهرة الدينية، ومحاولة البحث في خلفياتها النظرية كتأطير عام مُسْهِم في توجيه البحث Research Orientation، يضعنا في لحظة تأمل حول التطور الحاصل في الممارسة العلمية لمقاربة الدين والتدين، وفي الوقت نفسه ونحن نختبر تلك الأدوات ميدانيًّا نتساءل حول جدواها وإمكانياتها في تحليل الظاهرة ودراستها -باختلاف الظاهرة نفسها- إن كانت تشمل جانب التجربة أم الطقوس أم الأيديولوجيا أم المعرفة بحسب كلٍّ منMartin Geoffroy وأيضًا Jean-Guy Vaillancourt في مؤلفهما «تصنيف ونظرية التنظيم الديني في القرن العشرين»[3]. فهذا الانعكاس الإبستيمولوجي هو محاولة لتحديد البراديم[4] التأطيري القادر على بناء تحليل معرفي/علمي يقارب الدين في جانب التجربة، أو الشعور العقدي في علاقته بالمحيط الاجتماعي، مع فاعلين عايشوا مرحلة من الانتقال العقدي من مذهب ديني إلى آخر، ضمن صيرورة التحول الديني.
ويندرج مفهوم التحول الديني إجرائيًّا ضمن عمليات الانتقال العقدي/المذهبي والديني، أو كما عبَّر عن ذلك «صلاح عبد الرزاق» بأنه: «انتقال من دين إلى آخر، أو تبديل مجموعة من العقائد والشعائر بأخرى»[5]، وهو بذلك ينبني على عدد من المراحل الدالة في حياة المتحول، التي تكون عبارة عن شروط وعوامل دافعة في تشكل هذا التحول، وانعكاس ذلك على مساره الشخصي ومعيشه اليومي، سواء في مواقفه وتمثلاته الفردية، أو في علاقته مع محيطه الاجتماعي[6]. وبهذا نلحظ أن المسار المحدد لهذه العملية تتداخل فيه الأبعاد السوسيولوجية والسيكولوجية أيضًا. لذلك، فإننا نجد حضورًا بارزًا للأكاديميين والباحثين في علم النفس، ومنهم السيكولوجي الأمريكي Starbuck, Edwin Diller الذي يُعدُّ من الأوائل الذين خطوا مفهوم التحول الديني، من خلال كتابه «سيكولوجية التحول الديني والانتقال الروحي»[7]، الذي اعتبر أن الانتقال العقدي مرتبط أساسًا بإيجاد حلول لأزمة نفسية، يعمل معها المتحول على استدعاء ذات جديدة، وأن استدعاء هذه الذات يرجى منها الشعور بالكمال والسلام.
إن الشروط الفردية في بناء صيرورة التحول الديني، ومنها البحث عن الذات وتجديدها، تُبرز مدى قوة الحضور السيكولوجي في تحليل الظاهرة، إلا أن فيها تجاوزًا لأبعاد أخرى أكثر تأثيرًا في تشكل استعدادت الفرد وبناء مواقفه نحو تبني معتقد آخر. لذلك، كان للحضور السوسيولوجي دوره البارز، من خلال دراسات وإن اعتبرت لاحقة، إلا أنها استطاعت تناول الظاهرة في شموليتها، ومنها الدراسة التي أنجزتها السوسيولوجية السويسرية "إناس جيندرا"Ines W. Jindra في كتابها «نموذج جديد في التحول الديني»[8]، حيث اعتبرت أن العلاقات الاجتماعية والخلفية الثقافية تلعب دورها البارز في تشكل هذه الظاهرة، فالمشاكل العائلية أو الإحساس بغياب الروابط الاجتماعية في حياة الفرد، تدفع به نحو البحث عن روابط متينة تقوي من انتمائه الاجتماعي، وذلك من خلال الانتماء هوياتيًّا ودينيًّا لجماعة المشترك التديني الجديدة، المُشكِّلة لقوة الرابط الاجتماعي، والمحققة لهوية المتحول الجماعية[9].
وعمومًا، فإن الاشتغال العلمي على مفهوم التحول الديني بوصفه موضوعًا للدراسة والبحث الإمبريقي قد ارتبط بعدد من الأعمال التي تُشكِّل اليوم جزءًا مهمًّا من أدب التحول الديني، ومنها ما ظهر مع أعمال السوسيولجييْن الأمريكييْن «رودني ستارك»Rodney Stark، و«جون لوفلاند» John Lofland في ستينيات القرن الماضي، مقدمين فكرة أساسها أن المتحولين دينيًّا يعايشون مرحلة تتسم «بتغيير النظرة نحو الكون»، وهي مقولة أنثربولوجية تنبني على مفهوم براديمي وهو «رؤية الكون»، وهو مفهوم يعتبر أن تغيير المعتقد الديني هو تغيير لانتماء الإنسان في التاريخ، لما يترتب عليه من تحول في مرجعية الانتماء الثقافي والاجتماعي...إلخ، ومن ثمَّ تبني أطروحات (عقائد) جديدة حول العالم والدين، تؤدي بالمتحول إلى تحقيق تحول راديكالي لرؤية العالم والكون[10]. وكذلك برزت نظرية أخرى مع «ريتشارد ترافيسانو» RICHARD V. TRAVISANO في سبعينيَّات القرن الماضي، من خلال دراسته المقارنة للتحول بين العبرانية المسيحية واليهودية التوحيدية، حيث إن تغيير المعقتد ينتج عنه -حسب رأيه- «تضمين الاستخدام الشامل للهوية»، ما يعني أن المتحولين يجعلون من هويتهم الدينية الجديدة مركزًا لمعظم تفاعلاتهم الاجتماعية، ما يشير إلى أن ما يسميه ترافيسانو بتملك المتحول «للحقيقة الجذرية»، هو بالأساس تمزيق هوية سابقة، وإعادة تقديم لهوية جديدة «أسمى» من كل الهويات الأخرى[11].
وكذلك وُجِدَت اتجاهات نظرية معاصرة ربطت التحول الديني بالفعل الاجتماعي المعدِّل للعلاقات الاجتماعية، والمؤثر في العلاقة بالهوية والجماعة والإثنية والبنية الاجتماعية[12]، ما يجعله واقعة اجتماعية خاضعة للدراسة السوسيولوجية. في حين ينظر لتحول الشخصية والمواقف الذاتية على أنها مدخل للتحليل السيكولوجي، خاصة مع بروز مفاهيم مثل «الأزمة» كما صاغها «لويس رامبو» Lewis Rambo في كتابه «فهم التحول الديني»[13]. وأيضًا تحديد مداخل هوليستية تتجاوز الشروط والدوافع الذاتية/الفردية أو الاجتماعية المحلية، إلى أخرى ترتبط بالعولمة والنيوليبرالية والمجتمعات الشبكية، في فهم ظواهر التحول الديني، خاصة في المجتمعات التي عايشت مراحل متقدمة من الانغلاق الثقافي والاجتماعي، مثل ظاهرة الانتقال العقدي نحو المسيحية في المجتمع الصيني خلال السنوات الأخيرة.
وبذلك، فإن موضوع التحول الديني لا يشكل تداخلًا سوسيولوجيًّا وسيكولوجيًّا فقط، بقدر ما يشكل غوصًا في البنيات التأويلية للتجربة الدينية ككل، حيث يحضر التأويل الاجتماعي والثقافي والسياسي للدين في صيرورته التاريخية، ما يجعل الاشتغال حول هذا الموضوع اشتغالًا على الاجتماعي والثقافي في كيفية التفكير في الديني، الأمر الذي يطرح وجود نزعات معرفية وتداخلٍ تخصصي نحو الأنثروبولوجيا أيضًا، ويحضر فيها الحقل الثقافي إلى جانب السوسيولوجي الذي يُقر بالبعد التاريخي لسلوك الإنسان والجوانب الذاتية لخبرته، وهي ما تشكل جوهر التجربة الدينية التي عاشها المتحولون -وما زالوا- وفق صيرورة هوياتية سردية[14]، ما يعني أننا بصدد ظاهرة مركبة تتعدد جوانبها المعرفية التحليلية، إضافة لتعدد الشروط المنتجة لها.
ثانيًا: تحولات ما قبل التحول (تجربة البحث عن الذات)
أظهرت نتائج الدراسة الميدانية معايشة المستجوبين لمراحل بارزة من التحول قبل الانتقال العقدي للمذهب الشيعي، وهي تحولات تمحورت بين الجانب الديني والسياسي من جهة، والجانب الاجتماعي العلائقي من جهة أخرى. وهما جانبان متلازمان يؤثر كل واحد منهما في الآخر بأشكال متعددة، كما ارتبطت هذه التحولات بمرحلتين، الأولى: يحضر فيها البعد الذاتي/الفردي، من حيث تحقيق الذات والبحث عن «الحقيقة الغيبية»، والثانية: حيث يبرز المسار الممهد لتجربة التحول الديني، من خلال معايشة تجارب تدينية مختلفة، ما يحقق نوعًا من التكامل بين الفردي والجماعي من حيث البحث عن المشترك التديني من داخل المعتقد الديني نفسه.
1. مرحلة البحث عن الذات أو «الحقيقة الغيبية»
إن مفهوم الحقيقة ذو دلالة وصفية لها أهميتها الوازنة في البحث الميداني الذي أجريناه، حيث نلحظ تكراره عند جميع المستجوبين، وهو يرمز إلى حالة نفسية واجتماعية تنتاب المستجوبين في المراحل الأولى قبل عملية التحول. فمن خلالها يتم الغوص في تجارب فكرية ودينية متعددة، بوصفها جزءًا من عملية البحث عن «الخلاص الروحي»، بغية الوصول إلى الحقيقة الدينية التي تعلو كلَّ الأفكار الأخرى، كما تُعدُّ مرحلة شكية بالأساس تُطْرح فيها أسئلة وجودية حول تموقع الذات ضمن البعد الغيبي المرتبط بالمقدس. وتسمى هذه المرحلة سيكولوجيًّا بــ«الأزمة»، وقد تلعب فيها عدة عوامل نفسية/ذاتية، أو اجتماعية، مما يجعل المتحول منطلقًا ضمن مسعى يحاول من خلاله البحث عن ذاته ضمن المحيط الذي ينتمي إليه، وهي أزمة تُسهم في الانتقال من نمط اجتماعي أو ديني أو فكري أو ثقافي أو نفسي إلى نمط آخر مغاير عنه بشكل راديكالي، وإن كانت أسباب هذه الأزمة نفسية فإن تفاعلاتها اجتماعية بامتياز، ما يعني أن مدخلاتها السيكولوجية تنحى بها نحو مخرجات سوسيولوجية [15].
ويعد «لويس رامبو» من أبرز من تناولوا مفهوم الأزمة في التحول الديني، حيث اعتبرها أولى عمليات تغيرات الشخصية في حياة المتحول، بوصفها جزءًا من سلسلة انتقالات تشمل عدة مراحل أساسية أخرى من مسار التحول الديني، لكن مفهوم الأزمة هنا -حسب رامبو- يحضر بوصفه ممهدًا لهذا المسار[16]، ويمكن مزاوجة النتائج التي توصل إليها رامبو من خلال بحثه بالنتائج التي توصلنا إليها من خلال البحث الميداني لهذه الدراسة، حيث نجد أن هذه الأزمة لدى المستجوبين تأخذ منحى فكريًّا ووجوديًّا بالأساس، ضمن ما أسميته بمرحلة البحث عن الذات أو «الحقيقة الغيبية». كما أن هذه المرحلة ليست منفصلة عن عملية البحث عن الهوية أو الانتماء، إذ إنها تدخل ضمن مسار متشعب ينخرط ضمنه المتحول، فهو لا ينحصر في الأسئلة الفكرية والمرجعية بقدر ما تدور أسئلته حول الذات وتمحورها ضمن محيطها الاجتماعي، والبحث عن خلاصها الروحي والديني، وربطها بالحقيقة الغيبية المقدسة، أو بـ«الطهرانية العقدية»، سواء أكانت ضمن المذهب نفسه أو بالانتقال إلى مذهب آخر أو دين آخر.
إن التفاعل الاجتماعي للمبحوثين ضمن مسار البحث عن الحقيقة يدفع بذواتهم -وبشكل تدريجي- خارج المعتقد الديني السابق (المذهب السني)، وهو نتيجة طبيعية في ظل مسار من البحث عن الأجوبة لمختلف الأسئلة العقدية والفقهية التي يطرحها المستجوَبون (أحقية الخلافة، عدالة الصحابة، المرويات من التاريخ الديني الإسلامي، «مظلومية أهل البيت»...إلخ)، لذلك فإن التفاعل هنا هو البناء الذي يمكنهم من تملك المعرفة الدينية الواسعة، والتعرف أكثر إلى المذهب الجديد الذي يرونه مجيبًا عن أسئلتهم، ولا يقف التفاعل هنا عند من يشتركون معهم «المذهب السني»، وإنما ينتقلون للبحث عمَّن هم أعضاء في «المذهب الشيعي»، سواء من تربطهم بهم معرفة سابقة، أو عن طريق البحث في المجال الافتراضي (المواقع الإلكترونية، وسائل التواصل الاجتماعي...). كما أن عملية البحث هذه لم تدفع المستجوبين بداية نحو المذهب الشيعي، وإنما جاء اعتناقهم للتشيع في مرحلة لاحقة، حيث إن الجميع قد بدأ مسارًا من مرحلة البحث عن الذات أو «الحقيقة الغيبية»، عبر الانتماء لعدد من التيارات والحركات الدينية السنية المختلفة، سواء المرتبطة منها بالحركات الإسلامية أوالمرتبطة بالزوايا والطرق الصوفية، وهي المرحلة التي أسميتها بتحولات ما قبل التحول، وسأتناولها في المحور الفرعي التالي.
2. تحولات ما قبل التحول.. بوصفها مسارًا ممهدًا لتجربة التحول الديني:
اتسمت العينة التي أُنجز معها البحث الميداني بخصائص مشتركة، من حيث مسارهم في تجربة التحول الديني، فكلهم عايشوا تجربة الانتقال الفكري والعقدي قبل اعتناقهم للمذهب الشيعي، حيث تنوعت هذه التجارب ما بين الانتماء لحركات/طرق دينية، مثل جماعة العدل والإحسان، وأيضًا الانتماء الصوفي لعدد من الزوايا وأشهرها الطريقة البودشيشية القادرية، وقد أسهم هذا الانتقال بشكل بارز في الدفع نحو مرحلة البحث عن «الحقيقة الغيبية» كما عبر عنها المستجوَبون. والملاحظ أيضًا أن هذه التحولات الممهدة كلها جاءت ضمن مرحلة من الرغبة في الالتزام الديني، حيث قادتهم نحو البحث عن تنظيمات دينية تحفظ «التزامهم الديني» وتقوي «تدينهم الطقوسي»، فضلًا عن «إشباع رغباتهم الروحية والعرفانية»، مما يفهم من خلاله أن التحول -لاحقًا- إلى المذهب الشيعي كان ينطلق من رغبة في البحث من داخل التدين السني وليس من خارجه، أي إن «الحقيقة الغيبية» لدى المستجوبين كانت دينية في الأساس، لذلك عايشوا تجارب مختلفة من الانتماء الديني الحركي، قبل بداية التحول إلى المذهب الشيعي، الذي لعبت فيه تنظيماتهم الدينية (العدل والإحسان، الصوفية..) دورًا -وإن لم يكن محوريًّا- لكنه أسهم في الدفع بهم نحو رحلة البحث الثانية التي انتهت باعتناق المذهب الشيعي.
وجدير بالذكر هنا أن المرجعية السياسية والموقف التاريخي لجماعة العدل والإحسان[17]، وأيضًا التوجه التديني للزوايا الصوفية في المغرب، يختلف عن باقي التنظيمات والتوجهات الدينية الأخرى، التي تنهل من العقيدة والفكر السلفييْن بوصفهما مرجعًا أساسيًّا لها. فتأويلاتها -أي العدل والإحسان- للأحداث التي شهدتها المرحلة الإسلامية الأولى تتناغم بشكل بارز في حدود معينة مع المرجعية الشيعية، وهو ما يُعدُّ دافعًا أساسيًّا نحو مزيد من البحث والتنقيب في الأحداث التاريخية والفروقات المذهبية/العقدية، ومحاولة استجلاب «الحقيقة»، ما يدفع المستجوبين نحو مزيد من البحث في الأفكار التي يرونها تحمل الكثير من الشك وتستوجب التوضيح والشرح.
ويمكن تفسير هذه المرحلة بصيرورة بناء الفرد لنسقه العقدي، بوصفه نتاجًا لفعل المفهمة والتفكير حول المعتقد الديني، ضمن مجال «رؤية الكون» كما قاربها «ترافيسانو» أيضًا، فمرحلة الشك المرتبطة بتحولات ما قبل التحول، هي أساسًا إعادة تشكيل صيغ جديدة لمدارك الفرد الإيمانية[18]، وتجاوز حالة اللااستقرار التديني عبر تأكيد «النزعة الشكية»، التي تؤكد أن الحاجة الإيمانية للفرد ترتبط أساسًا بتحقيق «التزام ديني»، ينتقل به من البعد «المادي الدنيوي» إلى البعد «الروحاني الأُخروي»، أي تحقيق الاستقرار الإيماني وتقويته عبر الانخراط التنظيمي والطقوسي في جماعة «إيمانية»، كحال المستجوبين الذين التحقوا بحركات واتجاهات دينية قبل تحولهم للمذهب الشيعي، ومع استمرار اللحظة الشكية يظهر أن المستجوبين قد عايشوا تجارب تدينية جديدة من داخل تنظيماتهم الدينية، قادتهم نحو استمرارية البحث في ما سموه بـ«الخلاص الروحي».
ويمكن تلخيص مرحلة ما قبل التحول بالنسبة للمستجوبين في التالي، أولًا: وجود رغبة في الالتزام الديني والانطلاق ضمن مسار من التدين يُحَافظ فيه على أداء الطقوس الدينية. ثانيًا: البحث عن تنظيم ديني حركي أو طُرُقِي من أجل إشباع الحاجة العرفانية والروحية. ثالثًا: تحول الانتماء التديني من مرحلة الإشباع العرفاني إلى مرحلة شكية تُنْتِج مسارًا جديدًا من البحث عن الحقيقة. ونلحظ كيف أن للأثر الاجتماعي دوره في تأكيد هذه المرحلة والإسهام في انتقاليتها، بل وبروزه أيضًا في مختلف تلك المحطات، فالتفاعلات مع المحيط الاجتماعي هي ما أسهمت في نقل المستجوبين من مرحلة الأزمة أو البحث عن الذات، إلى مرحلة الانخراط التديني التنظيمي والطقوسي، وهذا ما نلحظه في نتائج البحث الميداني. ولعل أبرز الباحثين الذين تناولوا هذا الجانب، هو «كلود دوبار» Claude Dubar، حيث أشار إلى أن الفرد ضمن سيرورته في بناء الهوية بوصفه فاعلًا اجتماعيًّا يعاني من مرحلة «الأزمة» التي تقوده إلى البحث عن مرجعيات، وهو بحث جديد لذاته ونفسه وكذا العالم الذي يحيط به، على اعتبار أن هذه المعالم والمرجعيات الاجتماعية الجديدة -التي تختلف عن سابقتها- تسمح تدريجيًّا بإدماج تصور آخر للهوية، حيث إنه اتفاق آخر بين الأشكال الحالية التقليدية والمجتمعية التعاقدية، بين هوية للآخر وهوية للذات، كما يضيف كلود بأن أي تحول من هذا النوع يستبطن مرورًا من أزمات مصاحبة بصفة عامة لتلك اللحظات الدقيقة والحرجة في حياة الفرد[19].
ثالثًا: ثلاثية التحول الديني (مرحلة الانتقال العقدي وتجربة التحول الديني)
تعد تجربة التحول الديني مسارًا مرتبطًا بعدد من المراحل التي يمر من خلالها المتحولون دينيًّا، حيث إن التحول لا يمكن أن يكون نتيجة قرار وفعل سريع، وإنما يتضمن مسارًا معقدًا من المواقف والأحداث والمراجعات، لذلك برزت من خلال نتائج البحث الميداني مراحل ثلاث ممهدة لمسار التحول، أسميتها بـ(ثلاثية التحول الديني) وهي تبدأ بمرحلة «القطيعة وتجاوز اللحظة الشكية»، وتحدث فيها مفارقة مع الماضي التديني بكافة رموزه وتراثه الديني، مثل مسألة «عدالة الصحابة» و«كتب الصحاح» والمسائل الفقهية والعقدية المؤسسة للمذهب السني، لينتقل بعدها إلى مرحلة «تعميق المعرفة المذهبية»، وتتم عن طريق تجميع وتحصيل المعارف المختلفة حول المذهب المُتَحول إليه، وهو في هذه الحالة المذهب الشيعي الاثنا عشري، ليصل المتحول إلى المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة تثبيت المرجعية الدينية، التي يبحث من خلالها عن جماعة المشترك التديني، وتحديد طبيعة المرجعية الفقهية الممثلة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التقسيم المعتمد في هذا المحور يفصل بين مسار التحول الذي يسبق مرحلة الاعتناق الديني للمذهب الشيعي، وهو ما تناولناه في المبحث السابق، حيث يبدأ بمرحلة البحث عن الذات والحقيقة ثم ينتهي إليها، وما بين مسار التحول أثناء التشيع وبعده، والمرتبط بثلاثية التحول الديني. ولذلك فإن هذا المحور سيركز أكثر على مسار التحول أثناء الاعتناق وبعده، باعتبار أن التحول للمذهب الشيعي -بالنسبة للمبحوثين- يُعد «الحقيقة الغيبية» المستجوَبين عنها.
ولعل أكثر ما يميز هذه المرحلة -بحسب المستجوَبين- هو الحرص على إخفاء الميول العقدية الجديدة نحو التشيع، حيث تظل العقيدة الشيعية في مجتمعات ذات أغلبية سنية، لم تعتد على الاختلاف الديني ضمن محيطها المحلي، مرفوضة اجتماعيًّا خاصة مع التأثير الإعلامي والصراع السني الشيعي في دول المشرق وتسويق مشروع التشيع في علاقته بإيران كما تقدمه التيارات السلفية وغيرها. لذلك يبرز مفهوم التَّقية بوصفه يدخل ضمن استراتيجية المتحول الشيعي في تدبير الخلاف العقدي مع المحيط الاجتماعي، من خلال التستُّر كليًّا أو جزئيًّا على توجهاته العقدية، تجنبًا للصدام المباشر أو الإقصاء الاجتماعي، وحتى بوصفه استراتيجية تجاه الدولة من أجل تدبير حالة الخوف من الاعتقال بسبب التوجهات الدينية[20].
1. القطيعة وتجاوز المرحلة الشكية:
عند عقد المقابلات الميدانية، كثيرًا ما كانت تتكرر مصطلحات مثل «الصنم» و«القطيعة» و«الاستبصار» ..إلخ، الأمر الذي كان يستدعي منَّا مزيدًا من التوضيح والبحث؛ لمحاولة استخراج المعنى الإجرائي لهذه المفاهيم في إطار حكي المستجوَبين عن تجربتهم في مسار التحول الديني، وبغض النظر عن معنى الأصنام في هذا الباب -التي سيأتي ذكرها في السياق- فلا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه المرحلة -حسب المستجوَبين- تأخذ دورًا «رساليًّا»، بوصفها «سلوكًا نبويًّا»، ارتبط بحادثة «كسر إبراهيم للأصنام» في الكعبة، كاستنكار منه على قومه على عبادتها. وهو ما يفسر محاولة المستجوَبين تأكيد القطيعة الدينية والعقدية مع الماضي التديني، أي القطع مع المذهب السني بكسر كل الأسس الفقهية والعقدية والمرويات التاريخية المرتبطة به كــ(الإمامة، عدالة الصحابة، الكتب الدينية المرجعية، التدين السني الطقوسي..إلخ)، فهو -إذن- حالة من تأكيد التحول من معتقد إلى آخر، دون ترك أية رواسب فكرية أو مرجعية قد توجِّه السلوك أو تبني المواقف أو تحدد طبيعة الاختيارات.
وبرغم أن التحول الديني قيد الدراسة، فإنه انتقال عقدي داخلي، أي من داخل الدين نفسه (الإسلام)، إلا أن المستجوَبين -ومن خلال النتائج المتوَصَّل إليها- أكدوا على ضرورة «القطيعة الكلية» مع ماضيهم التديني، رغبة في عدم ترك أي «رواسب عقدية» قد تنتج لحظة شكية تقودهم نحو مسار جديد من البحث، أو «التيه العقدي» كما عبَّر بعضهم عن ذلك. وهذه النتيجة تتطابق إلى -حد بعيد- مع مخرجات عدد من الدراسات التي أُنجزت حول التحول الديني في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد وجدت أن المتحولين يعايشون مرحلة «القطيعة» أو «التغيير الجذري في الهوية»، حيث إن المعتقد الجديد يحمل معه بناءً جديدًا للمواقف والتمثُّلات والمعتقدات والطقوس، فهو إنتاج لرؤية جديدة بمرجعية عقدية، تتعارض ثقافيًّا وتاريخانيًّا مع مرجعيته السابقة. ومن ثم، فإنه يمكن اعتبارها لحظة قطيعة فورية ومستمرة وكاملة بين مرحلة سابقة وأخرى لاحقة[21].
2. تعميق المعرفة المذهبية/الدينية:
أظهرت النتائج الميدانية أن المرحلة الثانية من تجربة مسار التحول الديني مرتبطة بالعمل على تعميق المعرفة المذهبية للعقيدة المُتحوَّل إليها، عبر محاولة استجلاب أكبر قدر من المعارف والمعطيات الدينية والمذهبية، سواء المرتبطة بمسائل العقيدة والنصوص الدينية (الإمامة، تفسير القرآن، كتب الأحاديث والروايات...إلخ) أو المرتبطة بالطقوس التدينية (الصلاة، الصوم، الوضوء...إلخ)، وذلك من خلال الاطلاع على مصادرها الأساسية، سواء الكتب المرجعية من فقه وعقيدة، أو ما يسمى بـ«الرسائل العملية» للمرجعيات الشيعية، التي تتضمن المسائل الفقهية في أداء «الفرائض الدينية» والطقوس الأخرى المرتبطة بها. ونجد أن هناك قنوات أخرى تُعَمَّق من خلالها المعرفة المذهبية، مثل محيط الأصدقاء أو شبكة المعارف الذين سبق لهم التحول إلى المذهب الشيعي، من خلال النقاش والحوار وطلب الأدلة، أو البحث عن طرق أخرى من أجل استجلابها، مثل المواقع الإلكترونية الشيعية المخصصة لإرسال الأسئلة والاستفسارات الفقهية والعقدية، مثل موقع «عقائد» الذي يتبع مرجعية السيستاني، أو المنتديات الشيعية المفتوحة، فضلًا عن غرف الدردشة والمحادثات في المواقع الإلكترونية أو التطبيقات (البالتوك، الإنسبيك، الفيسبوك، اليوتيوب ...إلخ).
إن التفاعل الاجتماعي المباشر أو غير المباشر بين المتحولين ونُظرائهم ممن سبق لهم معايشة تجربة التحول الديني سابقًا، كان له أثر دال في مسلكيات المتحولين وتبدُّل مواقفهم وأفكارهم، وقد اخترنا مفهوم التفاعل الاجتماعي هنا -بما يحمله من خلفيات سوسيولوجية- بوصفه سلوكًا ارتباطيًّا يقوم بين فرد و آخر، وبين مجموعة من الأفراد في مواقف اجتماعية مختلفة، أي إن التفاعل الاجتماعي في أوسع معاينة هو تأثر الشخص بأفعال وآراء غيره وتأثيرهم فيه، ما يعني وجود تأثير وتأثُّر، ولكونه أيضًا التقاء سلوك شخص مع آخر، حيث يكون سلوك كل منهما استجابة لسلوك الآخر، ومنبهًا له في الوقت نفسه[22]. ودلالة ذلك عند المتحولين هو الأثر والاستجابة عبر العملية «التبشيرية»، التي يسعى من خلالها الطرف الثاني (متحول سابق) إلى نقل المعارف الدينية حول المذهب الشيعي إلى الطرف الأول (في طور التحول)، عن طريق توزيع الكتب والتوجيه في القراءة، ونقاش الأفكار، وهي عملية تعلُّمية يتمكن من خلالها المتحولون من تحصيل المعرفة اللازمة حول ما يرتبط بالمعتقد المتحوَّل إليه.
3. تثبيت المرجعية الدينية
يحرص المذهب الشيعي الإمامي على ضرورة تقليد مرجع ديني، حيث يقلِّد كل منتسب للمذهب (شيخًا) أو (سيدًا) في فتاواه ورسائله العملية، ويُعد هذا الأخير مرشدًا يتولى شؤون الناس الدينية، ويُعد أيضًا المرجع -عند الشيعة عمومًا- مصدر الاجتهاد والفتوى، ويتفرع عنه شيوخ مقلدون ووكلاء يمثلونه في البلدان وينوبون عنه في نقل الأسئلة إلى المرجع، وتفسير فتاواه ودروسه، ويكونون وكلاء له في جمع أموال الخمس من المقلدين[23]. وتعد هذه المرحلة بمنزلة محطة نهائية في عملية التحول، التي تستدعي اختيار المرجعية الفقهية المؤطِّرة لمسلكيات التدين، وهي محطة أساسية لإسهامها في الانتساب إلى جماعة «المشترك الديني»، التي نقصد بها الجماعة التي تحمل نفس القيم والأفكار والمبادئ الدينية، التي تُشْعِر المتحول بانتماء هويَّاتي يشبع حاجاته النفسية والفكرية والدينية، وتعبِّر عن توجهاته ومواقفه الجديدة. وأيضًا بوصفه أحد العناصر الصلبة في عملية بناء الهوية الدينية الشيعية، وهي تأتي مباشرة بعد الحسم النهائي مع الماضي التديني للمتحول، وانتسابه للمذهب الشيعي بعد مروره بمرحلتي القطيعة/تجاوز اللحظة الشكية وتعميق المعرفة المذهبية. ولعل هذه المرحلة -بحسب «ميشال مافيزولي» Michel Maffesoli- تُمثِّل صيرورة مُسْتَحدَثة يعاد فيها تشكيل الروابط الاجتماعية إلى تعويض الروابط التعاقدية، لكن دون أن يعني هذا التحول -حسب رأي مافيزولي- عودة للجماعية التقليدية، بل إنه ظهور مجموعات مجهرية هي بالمعنى الفيبيري جماعات شعورية[24]، تتأسس على الانتماء المرجعي الديني، وتتقاسم نفس الهوية والمشترك التديني الطقوسي، وهو الحال الذي نجده في نموذج الشيعة المغاربة. وقد لاحظنا من خلال نتائج البحث الميداني أن هذه المرحلة تأخذ شكلين أساسيين يمكن إيجازهما في التالي:
أ. جماعة المحيط التديني
هو المحيط المرافق للمتحول في كافة مراحل تجربة ومسار التحول الديني؛ إذ إن التفاعل الاجتماعي عن طريق التواصل في جانب المعرفة الدينية، وبناء المواقف والأفكار مع من عايشوا تجارب سابقة من التحول نحو المذهب الشيعي، يُسْهِم بشكل بارز في التوجيه نحو المرجعية الدينية، ويسهِّل عملية اختيار رجل الدين الذي سَيُقلَّد بوصفه الأعلم والأجدر بالاتباع، وهذا المحيط يلعب دورًا أكبر في تسهيل تحقق الهوية الدينية الجماعية، بوصفها جماعة «للمشترك التديني».
ب. البحث الذاتي
لم ينخرط جميع المستجوبين ضمن دائرة المحيط التديني، الذي ساعدهم عن طريق التفاعل الاجتماعي في تثبيت مرجعياتهم الدينية، حيث إن آخرين كانوا على احتكاك سابق بعدد من المراجع عن طريق قراءة مقالاتهم وكتبهم، كحال المرجع الشيعي المتوفى «حسين فضل الله»، الذي كان يكتب في مجلة «العالم» الشيعية[25]، الأمر الذي مكَّنهم من معايشة مرحلة تعميق المعرفة المذهبية ثم اختيار المرجعية الفقهية عن طريق الاجتهاد الذاتي.
رابعًا: الشروط المُسهمة في مسار تجربة التحول الديني
سنحدد في هذا المحور شروط التحول الديني وآلياته التي أسهمت في عملية الانتقال من المذهب السني إلى المذهب الشيعي، حيث إن هذه الشروط -حسب نتائج البحث الميداني- تحددت في أربعة شروط أساسية، تختلف بحسب التجارب الخاصة والفردية لكل مستجوَب على حِدة:
الأول: الشرط السوسيولوجي المرتبط أساسًا بالمحيط الاجتماعي ومستوى تفاعلاته الاجتماعية. أما الثاني: فهو يرتبط بالشرط السيكولوجي، حيث تبرز تجربة الأزمة النفسية والبحث عن الذات. أما الثالث: فهو يتعلق بالشرط المعرفي، وفيه يعايش المتحول قلقًا معرفيًّا يُسائل من خلاله بنيته الثقافية والدينية والمذهبية. أما الشرط الرابع والأخير: فهو الشرط السياسي، وفيه ما اصطلح عليه بالتشيع السياسي، المرتبط بتأثيرات الثورة الإيرانية والتشيع السياسي باعتبارها محطة مسهمة نحو التشيع المذهبي.
1. الشرط الاجتماعي
نعرض من خلال هذا الجزء الشروط الاجتماعية الدافعة نحو الانتقال العقدي للشيعة المغاربة، كما توصلنا إليها عن طريق نتائج البحث الميداني، وهي تشكل جانب الأسرة بوصفها وعاءً لبناء التوجهات والمواقف الاجتماعية والدينية والثقافية وغيرها، وأيضًا المحيط الاجتماعي وما يحققه من تفاعل اجتماعي بين المتحولين ونظرائهم.
2. الأسرة بوصفها وعاءً لبناء التوجهات والمواقف
تُعد الأسرة إحدى مؤسسات التنشئة الاجتماعية، لما لها من دور وظيفي في تربية الفرد وإعداده، من خلال نقل قيم ومبادئ الجماعة/المجتمع، كما أن دورها ينتقل أيضًا إلى العمل على بناء شخصية الفرد منذ المراحل الأولى من حياته، وهي العوامل التي تسهم في صقل معارفه وسلوكه وبناء مواقفه ومرجعيته الثقافية، عن طريق الرموز والأدوات والثِّقل الثقافي الذي تنقله أثناء عملية «التربية»، سواء بشكله الواعي المباشر أو غير الواعي غير المباشر[26]. وبهذا، فإن دور الأسرة لا يقف فقط عند بعده الاجتماعي بقدر ما يُسهِم في أبعاد أخرى خاصة البعد الديني، من خلال التوجيه نحو أشكال التدين وممارسة الطقوس الدينية، وهذا ما لاحظناه من خلال البحث الميداني الذي أجريناه مع المستجوَبين، إذ إن طبيعة المواقف الدينية للأسرة تنعكس بشكل دال على الفرد.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك