بقلم:الكاتب والباحث سعيد الكحل
كثرت خرجات الفقيه أحمد الريسوني حول مدونة الأسرة والمطالب النسائية والحقوقية بتعديلها حتى تكون مسايرة لحركية المجتمع ومنسجمة مع الدستور وموائمة للاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب. وكلما طُرحت مسألة تعديل المدونة إلا وخرج الفقيه الريسوني، لسان حال التيار الإخواني، معبّرا عن مناهضته للمطالب النسائية والحقوقية، ومحرّضا ضد الجمعيات والهيئات النسائية لمطالبتها بالمساواة والمناصفة ورفع كل أشكال الظلم والعنف والتمييز المبنية على النوع. لقد انتصب الفقيه ونصّب نفسه مدافعا عن أطروحات الإسلام السياسي ومشرعنا للمظالم النسائية باسم الشرع والمذهب المالكي، بينما هو ينهل من خارجهما وفي تناقض معهما. فهو لا يريد شرعا ولا عدلا ولا إنصافا ولا مساواة.
الفقيه المقاصدي ضد مقاصد الشريعة.
يُصنَّف الفقيه الريسوني بالمختصص في "علم المقاصد". ومن مقاصد الشريعة: العدل، التيسير على المكلفين، جلب المصالح ودرء المفاسد. فعلم المقاصد هو كذلك علم المصالح والمفاسد. ويعرّف الفقيه الريسوني نفسُه مقاصد الشريعة كالتالي (مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد). إذن غاية الشريعة ومقاصدها هي خدمة مصالح العباد. فهل التزم الفقيه الريسوني بهذا التعريف وسعى إلى تحقيق مقاصد الشريعة لخدمة مصالح العباد؟ يمكن استعراض فتاوى ومواقف الفقيه الريسوني من المطالب النسائية ليتضح أمره إن كان فعلا في خدمة مقاصد شريعة الرحمن أم أنه في خدمة مقاصد إيديولوجية الإخوان. حين طرح اتحاد العمل النسائي عريضة مليون توقيع لتعديل مدونة الأحوال الشخصية سنة 1992، تصدى الريسوني وتياره الإخواني، بكل شراسة، لواضعي العريضة والموقعين عليها. وهو، بمناهضته لمطلب التعديل، يريد أن يستمر وضعُ النساء كرهائن وجواري وملك اليمين في يد الأزواج الذين منحتهم المدونة حينها، حق تملّك جسد الزوجة ورقبتها وحريتها ومصيرها. إذ كان من حق الزوج التطليق غيابيا وبدون علم أو حضور أو رأي الزوجة. كما كان من حقه أن يُجبرها، بالاستعانة بالقوة العمومية، على الرجوع إلى بيت الطاعة قهرا واغتصابها قانونا "وشرعا". بل كان من حق الزوج أن يطرد زوجته من المنزل ويوقف عنها النفقة التي جعلتها المدونة في مقابل الاستمتاع بها. وحين طالبت النساء بالولاية على أنفسهن في الزواج حتى لا يبقين رهينة أولياء يُكرهونهن على الزواج ممن لم يرضين بهم، أو باقتسام الممتلكات الزوجية ضمانا لحقهن فيما تراكم بفضل كدّهن، أو برفع سن الزواج إلى 18 سنة منعا لاغتصاب الطفولة، أو بوضع الطلاق بيد القاضي حتى يكون للزوجة حق امتلاك قرارها في إنهاء الزواج عند استحالة السكينة والمودة؛ كان الفقيه الريسوني بالمرصاد لهن. إذ أصدر بيانا اتهم فيه النساء ومسانديهن من الرجال بالتآمر على الدين والسعي لتدمير الأسرة وتخريب المجتمع. فأفتى ببطلان الزواج وحرمته بدون ولي، علما أن مدونة 1993 كانت تسمح للثيب أن تعقد زواجها بدون ولي. كما أفتى بحُرمة تقسيم الممتلكات الزوجية واعتبرها في حكم "إباحة أكل أموال الناس بالباطل وهدم أحكام المتعة والنفقة في العدة". علما أن الخليفة عمر بن الخطاب أفتى للسيدة حبيبة بنت زريق بنصف تركة زوجها المتوفى باعتبارها شريكة له في مراكمتها، ثم بالربع كميراث لها. تجاهل الفقيه الريسوني اجتهاد عمر، وتجاهل كذلك فتوى حق "الكد والسعاية" التي أفتى بها فقهاء سوس، وفي مقدمتهم ابن عرضون، ضمانا لحق الزوجات، عند الطلاق أو وفاة الأزواج، فيما تراكم من ممتلكات خلال فترة الزواج. والفظيع في فتاوى الفقيه الريسوني أنه اعتبر رفع سن الزواج إلى 18 سنة "تشجيعا على الزنى". ولا يزال إلى اليوم يرفض منع تزويج القاصرات.
الريسوني في خدمة مقاصد الأيديولوجية لا مقاصد الشريعة.
لا تخفى دوافع الفقيه الريسوني، انطلاقا من فتاواه ومواقفه من المطالب النسائية؛ فهو أبعد ما يكون عن تتبع مقاصد الشريعة في رفع الظلم وتحقيق العدل وصيانة كرامة المرأة ودرْء المفسدة. وهذا هو مطلوب من فقهاء مقاصد الشريعة، وفق ما أوضحه العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام": (مَن تتبَّع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودَرْء المفاسد، حصل له من مجموع ذلك اعتقادٌ أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص). فهل ابتغى الفقيه الريسوني مصالح النساء بتحريم ولايتهن على أنفسهن وعلى أبنائهن، وبحرمانهن مما ساهمن في إنتاجه ومراكمته من ممتلكات زوجية، ومن تجريدهن من حقهن في إنهاء عقد زواج بات فاقدا للمودة والسكينة؟ لا شك أن مواقف الفقيه الريسوني وفتاواه تخدم الأهداف الإيديولوجية لتيار الإسلام السياسي المناهض لحقوق النساء والأطفال، والساعي إلى تكريس وشرعنة كل أشكال الظلم والاستغلال والعنف في حقهن.
إن الفقيه الريسوني لم يجعل: "المقاصد قبلة المجتهدين" كما قال بعض العلماء، ولا استرشد بقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "المقاصد أرواح الأعمال". لهذا جاءت فتاواه خارج التاريخ ومصادمة للواقع ومناهضة لتطلعات المجتمع ومعاكسة لحركية المجتمع وتطور بنياته. وهو، بهذا، لا يسعى لتحقيق مصالح الناس والتيسير عليهم ورفع الضرر والحرج عنهم؛ بل يريد خلاف ذلك.
الفقيه لي نتْسنّاوْ براكْتُو دْخَل للجامع ببَلْغْتُو.
كعادة الفقيه الريسوني، وانسجاما مع الإيديولوجية التي يخدم مقاصدها، فقد هاجم دعاةَ تعديل المدونة متهما إياهم، من جهة، بأنهم يخوضون معركة "ترمي إلى التحديث بمعناه الإيديولوجي فكل ما هو قديم، كل ما هو إسلامي، كل ما هو فقهي يجب أن يزول بالتدريج ويجب حذفه.. بعض الذين يقفون خلف هذه المطالب وهذه التعديلات المتلاحقة لهم رؤية متكاملة هي أن الزواج يجب أن ينتهي ومؤسسة الأسرة يجب أن تنتهي". ومن جهة ثانية، "لا يؤمنون بآيات الله أو لا يرون آيات الله، يريدون محوها ويريدون طمسها بأن يجعلوا المرأة رجلا وأن يجعلوا الرجل امرأة.. فكرة المساواة العمياء وفكرة المساواة الميكانيكية هذا ضلال". فلا مساواة ولا مناصفة بالنسبة للفقيه الريسوني، بل اعتبر "التمييز الموجود في المدونة هو نعمة من نِعم الله وآية من آيات الله".
لم يكتف الفقيه الريسوني بمهاجمة دعاة تعديل مدونة الأسرة، بل تطاول على أعضاء المجلس العلمي الأعلى بأن اتهمهم بالخضوع والخذلان "إن العلماء وقع توريطهم في بعض المواقف التي نعرف أنهم لا يؤمنون بها". فهو يريدهم أن يكونوا على قناعته الإيديولوجية المناهضة للمطالب والحقوق النسائية. إن إيديولوجية الفقيه الريسوني لا تؤمن بالتطور ولا بتغير المجتمعات؛ لهذا نجد معتنقيها يوظفون الدين لشرعنة قناعاتهم الإيديولوجية وفرضها على الدولة والمجتمع والأسرة. لكن حتمية التطور والتغيير تظل سنة الله في الكون وفي خلقه.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك