مستجدات / الجمعة 01 نوفمبر 2024 12:29:03 / لا توجد تعليقات:
تقرر ضمن أركان الإيمان الاعتقادُ والإيمان بالرسل عليهم السلام، وذكر القرآن عددا قليلا منهم، ولم يقص علينا أخبار جميعهم.
ومن الأنبياء الذين عرّفنا عليهم القرآن الكريم سيدنا آدم عليه السلام، وقد استقر العمل المتوارث قرنا بعد قرن على اعتقاد نبوته، وانعقد الإجماع على ذلك، ولم يشذ عنه بعد انعقاده إلا قلائل الأفراد.
وقد نوقشت المسألة من قبل بعض من اصطُلح عليهم برجال الإصلاح والتنوير والتجديد، فاختلفوا في شأنها، فمنهم من أنكر رسالة آدم وأثبت نبوته، ومنهم من زعم أن نبوته ثابتة لكن أدلتها ظنية غير قطعية، ومنهم من غالى وأنكر نبوته بالمرة، ومنهم من اتبع منهجا ملتبسا غير واضح المعالم لمقاربة الموضوع فيقول القول وضده، فما هي أهم أقوال رموز هذه المدرسة في الموضوع؟ وما هو رأي الشيخ رشيد رضا باعتباره أحد رموز هذا التيار؟
نبوة آدم:
انعقد الإجماع على نبوة سيدنا آدم عليه السلام، وحكاه غير واحد من العلماء الأثبات كابن حزم وغيره، ووردت في التراث الإسلامي بعض الأقوال التي قد يفهم منها خرق هذا الإجماع، مثل قول قتادة: “كان أول نبي بعث نوح عليه السلام”[1].وهذا القول غير صريح، لأنه قد يُفهم منه أن أول نبي على الإطلاق هو نوح، وقد يُفهم منه أن آدم نبي لكنه لم يكن رسولا مبتعثا، خلافا لنوح الذي كان نبيا مبتعثا. وإذا احتمل القول الأمرين لم نجزم بنفي قتادة ولم نعتمده في خرق الإجماع.
نبوة آدم عند رجال الإصلاح والتجديد:
قد لا نبالغ إذا قلنا بأن علماء مصر كانوا على منهج الأزهر وطريقته، وقد تقع بينهم الاختلافات في الاختيارات والترجيحات والاستدلالات، لكنهم في الغالب مدرسةٌ واحدة، لم يقع بينهم الاختلاف في المنهج والأصول النظرية إلا بعد ظهور الشيخين جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده رحمهما الله، فوقع ما لم يقع من قبل، خصوصا بالنسبة للشيخ محمد عبده الذي تخرج على يديه عدد من التلاميذ الذين تقلدوا الوظائف الدينية والمهام الشرعية كالقضاء ومشيخة الأزهر وغيرهما، ونظرا لمركزيته وتأثيره في تلاميذه كان بعض العلماء والباحثين ينسبون إليه هذا التوجه ويطلقون عليه “السلفية العبدية” تمييزا لها عن “السلفية التيمية”، وكان لمدرسته امتداد فكري في عموم الشمال الإفريقي.
وبالعودة إلى المتن الذي خلفه أعلام هذه المدرسة بخصوص قضيتنا، فإننا نجد رائدها يقر بلا لبس نبوةَ آدم عليه السلام، قال محمد عبده أثناء حديثه عن إمكان خطأ الأنبياء من عدمه: “أما وقوع الخطأ منهم فيما ليس من الحديث عن الله ولا له مدخل في التشريع فجوّزه بعضهم والجمهور على خلافه”، وضرب لذلك مثالين اثنين:
أولهما: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تأبير النخل.
ثانيهما: “ما حكاه الله من قصة آدم وعصيانه بالأكل من الشجرة”[2].
وإيراده لهذا المثال في سياق الحديث عن صفات الرسل وإمكان وقوعهم في الخطأ دليل على قوله بنبوته واعتقاده ذلك.
وإذا تجاوزنا الشيخ محمد عبده، فإن الشيخ عبد الوهاب النجار كان أوضح منه وأصرح، حيث قال: “إن القرآن لم يذكر لفظ النبوة بإزاء آدم كما ذكر ذلك بإزاء غيره من الأنبياء كإسماعيل وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم، ولكن ذكر أنه خاطبه بلا واسطة، وشرع له في ذلك الخطاب فأمره ونهاه وأحل له وحرم عليه بدون أن يرسل إليه رسولا، وهذا هو كل معاني النبوة، فمن هذه الناحية نقول إنه نبي وتطمئن أنفسنا بذلك”[3].
وأقرّ بنبوة آدم عليه السلام بعض العلماء الذين يعدّون امتدادا لهذه المدرسة لما لهم من تأثر بها وبأدبياتها وأعلامها، مثل العلامة التونسي الطاهر بن عاشور والعلامة الجزائري عبد الحميد بن باديس.
قال العلامة الطاهر بن عاشور: “وأما آدم فإنه نبيء منذ كونه في الجنة، فقد كلمه الله غير مرة، وقال: “ثُمَّ ٱجۡتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيۡهِ وَهَدَىٰ” [طه: 122]، فهو قد أُهبط إلى الأرض مشرفا بصفة النبوءة”[4].
وقال العلامة عبد الحميد بن باديس تعليقا على قوله تعالى “وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ” [غافر: 78]: “عدد المذكورين في القرآن خمسة وعشرون نعرفهم بأسمائهم، جمعهم الناظم في هذين البيتين:
في “تلك حجتنا” منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهُمُو
إدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار قد خُتموا”[5].
بناء على ما سبق، يتبين أن القول بنبوة آدم يعد من الأقوال التي حصل في شأنها الاتفاق بين العلماء المحافظين المتمسكين بالمناهج العلمية الأصيلة ونظرائهم ممن اصطلح عليهم برواد التجديد ورجال الإصلاح.
نبوة آدم عند الشيخ رشيد رضا:
أفردت الحديث عن الشيخ رشيد رضا القلموني وموقفه لخصوصية مقاربته للموضوع المتجلية في تعدد أقواله واختلافها، وقد صدرت عنه وجهات نظر متعددة وآراء مختلفة، نجملها في الآتي:
الرأي الأول: كان رشيد رضا يقر بنبوة أبينا آدم عليه السلام، وكانت له دروس في جمعية شمس الإسلام سنة 1317هـ، قال في الدرس الثالث من أماليه الدينية: “أول اجتماع بشري هو اجتماع الأسرة (العائلة) المؤلفة من أبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام ومن أبنائهما، وقد كان آدم نبيا يتلقى عن الله من الدين ما يسوس به ذلك الاجتماع الصغير، وقد فسق بعض ولد آدم عن هدي والده فقتل أخاه فكانت بذلك مخالفةُ الدين سنةً في الإنسان باقية إلى ما شاء الله”[6].
وفي تفسير قوله تعالى: “إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ” [آل عمران: 33]، قال: “أي: اختارهم وجعلهم صفوة العالمين وخيارهم بجعل النبوة والرسالة فيهم، فآدم أول البشر ارتقاء إلى هذه المرتبة، فإنه بعدما تنقل في الأطوار إلى مرحلة التوبة والإنابة اصطفاه تعالى واجتباه كما قال في سورة طه: “ثُمَّ ٱجۡتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيۡهِ وَهَدَىٰ” [طه: 122]”[7]. وهذا نص صريح في اعتقاد نبوة آدم من قبل الشيخ رشيد رضا.
وفي سنة 1325هـ كتب محمد فريد وجدي عن آدم عليه السلام، وادعى أن نبوته وإن كانت ثابتة بالإجماع، إلا أن الله تعالى لم يوح إليه بشريعة، لعدم وجود المقتضي في ذلك الوقت نظرا لقلة الناس وقربهم من حال الفطرة.
لم يستسغ الشيخ رشيد رضا أطروحة وجدي، وكتب مقالين لانتقاد أفكاره، فقال في أولاهما: “بعد أن ذكر أن آدم كان نبيا بالإجماع، ما كان له أن يرتاب في كون وحي الله له ــ وقد اعترف بأنه ثابت من الوحي الخاص لا من قبيل الوحي إلى النحل ــ فهذه سقطة كبيرة، وقوله: إن الحال في عهده لم تكن تقتضي شرعا لما ذكره ظاهر البطلان، فإن القليلين يتنازعون ويتخاصمون كالكثيرين، فيحتاجون إلى من يحكم بينهم بالحق والعدل، وقد ثبت أن أحد أبناء آدم قتل أخاه، ولم يمنعه القرب من الفطرة عن ذلك، فماذا نقول فيما دون القتل من أنواع الخصام؟ ثم ما يدرينا أن آدم عاش عمرا طويلا كثر الناس فيه، فإن طبيعة الأرض كانت في عهده غير طبيعتها الآن فيما يظهر، بل ثبت بالوحي أن نوحا عاش نحو ألف سنة”[8].
وبيّنٌ من خلال هذا النص أيضا أن رشيد رضا يوقن بنبوة آدم عليه السلام، ويستنكر ارتياب وجدي في شأنها، وأتبع ذلك بالرد على استدلالاته التي يتبين من ثناياها أنه يقول برسالة آدم أيضا وليس بنبوته فقط.
ولما انتقد وجدي مقالَ رضا، كتب هذا الأخير نقدَ النقد، وقال فيه: “الجواب الحقيقي من هذه الجمل التي لخصنا بها كلامه هو أنه لم يجد سلاحا يدافع به عن اعتقاد المسلمين بنبوة آدم إلا التشكيك فيها، فهل سمع أحد من البشر أن التشكيك في الدين دفاع عنه؟ أليس الشك في الدين كالإنكار لقضاياه، كلاهما كفر صريح؟”[9]. وهنا اعتبر التشكيك في نبوة آدم تشكيكا في الدين، وأن ذلك كفرا صريحا.
وبما أنه يميل إلى التكفير في هذه النازلة، فإنه لا محالة يقول بقطعية دليلها، ولو كان ظنيا لما اعتبر ذلك تشكيكا في الدين آيلا بصاحبه إلى الكفر.
الرأي الثاني: بعد عقد ونيف سيعلن أبو زيد الدمنهوري سنة 1337هـ إثبات نبوة آدم عليه السلام، لكنه قرر أن أدلة نبوته غير قطعية، وإنكارها لا يؤدي بصاحبه إلى الكفر، فرُفعت عليه دعوى قضائية حُكم عليه بموجبها ابتدائيا بالكفر والتفريق بينه وبين زوجته، فاستنكر رشيد رضا هذا الحكم القضائي، وعدّه “ظاهر البطلان”، لأن القول بظنية أدلة نبوة آدم ورسالته لا يلزم منه إنكار نبوته، “وإلا كان القاضي نفسه منكِرا لمعظم أحكام الشريعة التي يحكم بها بين الناس في مسائل الأبضاع والأموال والكفر والإيمان، فإن معظمها ظني بغير نزاع، وقد صرحوا في العقائد النسفية وشروحها أن الأدلة الظنية كافية في العقائد”، أما القول بردة الدمنهوري فأنكرها بناء على أن التكفير لا يصار إليه إلا في حالة “جحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة … ونبوة آدم ورسالته ليست كذلك”[10].
يتبين من هذه الاقتباسات أن رشيد رضا قرر الآتي:
أولا: أدلة نبوة آدم ظنية. وهنا تراجع عن موقفه السابق الذي مال فيه إلى التكفير.
ثانيا: معظم مسائل العقيدة (الكفر والإيمان) ظني، وعضد كلامه بما ورد في العقائد النسفية.
ثالثا: التكفير لا يكون إلا في إنكار المعلوم من الدين بالضرورة.
وهذا لا يتوافق مع ما قاله في انتقاداته السابقة التي وجهها إلى محمد فريد وجدي، بل يتعارض معها، لأن نبوة آدم إن كانت ظنية غير مجمع عليها كما في وجهة نظره الثانية، فلماذا غلا في الحكم على وجدي ولمح إلى التكفير ومال إليه؟
الرأي الثالث: أورد في تفسير المنار مبحثا بعنوان: “تحقيق مسألة الإيمان بالرسل إجمالا وتفصيلا، وعدد الرسل المذكورين في القرآن”[11]، قارب فيه المسألة من زاويتين اثنتين، حيث ميز بين رسالة آدم ونبوته.
أولا: رسالة آدم.
قرر بحسم لا يخالطه ريب أن آدم ليس رسولا، واستدل لذلك بالآتي[12]:
أ ــ عدم وجود نص قطعي صريح في القرآن ينص على رسالته.
ب ــ قوله تعالى:”إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ” [النساء: 163]، ووجه الاستدلال بالآية أن مفهومها دليل على “أن نوحا أول نبي مرسل أوحى الله إليه رسالته وشرعه”.
ج ــ يؤيد الدليلَ السابق أن الله تعالى لم يذكر آدم في قوله سبحانه: “وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحٗا وَإِبۡرَٰهِيمَ وَجَعَلۡنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلۡكِتَٰبَۖ” [الحديد: 26]. كما أنه لم يذكره في سور هود ومريم والأنبياء والشعراء والصافات وص والقمر، وهي السور التي سردت أسماء الرسل المشهورين.
د ــ استدل أيضا بحديث الشفاعة، وفيه قول آدم: “ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى الأرض”[13]، فيأتيه الناس ويقولون له: “يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض”[14].
وعقِب هذه الاستدلالات أورد أقوال العلماء الدالة على أن أولية رسالة نوح مقيدة بعبارة “إلى أهل الأرض”، بخلاف رسالة آدم، فإنها كانت لأولاده وذويه، ومن ثم سهل الجمع بين الأدلة، فكانت أولية رسالة آدم عامة من حيث الترتيب الزمني، وأولية رسالة نوح مقيدة بالفئة المستهدفة، لأنه أول رسول بعث إلى قوم وليس إلى أهله فقط، ثم عقّبَ على هذا المسلك منتقدا، وعدّه مسلكا باطلا بدعوى “أن أولاد آدم وأحفاده كانوا أهل الأرض لا السماء”[15].
وبعد أن حكى اختلاف العلماء في رسالة آدم، وأن الاختلاف في ذاته دال على ظنية الدليل، كان القول بنفي الرسالة أرجح، لأن إثباتها من المسائل الاعتقادية التي لا يطلب فيها إلا اليقين[16].
وقد ذكر العلماء أن آدم كان على شريعة من العبادة، وأن أولاده أخذوا ذلك عنه، فيلزم منه أنه رسول إليهم. وهذا ما نقضه الشيخ رشيد رضا، إذ من الجائز “أن يكون قد رباهم من الصغر على ما هداه الله إليه من الإيمان والعمل الصالح”، ليخلص إلى أن آدم “كان على هدى من الله يعمل به ويربي عليه أولاده، وأنه منه عبادات وقربات يرغب فيها مبشرا بأن فاعلها يثاب عليها، ومحرمات ينهى عنها منذرا بأن فاعلها يعاقَب عليها، وهذه الهداية هي من جنس هداية الله للنبيئين والمرسلين التي بلغوها لأقوامهم، ولا ندري كيف هدى الله تعالى آدم إليها؟ فإن طرق الهداية والتبليغ الإلهي متعددة”[17]، ولا يجوز القول بأن هذه الهداية كانت عن طريق الوحي لمعارضة ذلك لحديث الشفاعة ولقوله تعالى: “إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح” الآية، كما يحتمل أن تكون تلك الهداية “من هداية الفطرة السليمة التي فطر آدم عليها، ونشأت عليها ذريته إلى زمن نوح إذ اختلف الناس وحدثت فيهم الوثنية فبعث الله فيهم النبيئين”[18].
وأضاف الشيخ رشيد رضا أن آدم لم يبق على الفطرة التي خلقه الله عليها، بل زاده هدى بما كان يلهمه من الأقوال والأفعال، “وقد يزاد على ذلك إرشاد الملائكة له ولأولاده، فقد كانوا بطهارة فطرتهم يرون الملائكة كما ورد في تعليمهم إياهم تجهيز أبيهم ودفنه حين توفي”[19].
ثانيا: نبوة آدم.
لم يكتف الشيخ رشيد رضا بنفي الرسالة عن سيدنا آدم فحسب، بل تعداها إلى نفي نبوته، فعمد إلى أهم دليل قرآني دال على ذلك وهو قصة خلقه ومعصيته وتوبته، وفيها تعليم الله له الأسماء، وتلقيه كلمات من الله فتاب عليه وهداه، “لكن دلالة ما ذُكر على نبوته غير قطعية”، ووجه ذلك أن “الجمهور لا يجعلون كل وحي نبوة، لا ما كان بخطاب الملَك، ولا ما كان بالإلهام والنفث في الروع، ولذلك لا يقولون بنبوة مريم وأم موسى”، وإذا كانت الآية تفيد تكليم الله له، فإن هذا الكلام ليس دليلا على النبوة أيضا، لأن خطاب الله له قد يكون “من خطاب التكوين لا التكليف”، مثل خطاب الله تعالى للسموات والأرض الوارد في الآية: “ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡكَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِين” [فصلت: 11][20].
ثالثا: مسلك الجمع وحل الإشكال.
أمام التعارض الواقع بين مجموعة من النصوص، اهتدى الشيخ رشيد رضا إلى التفرقة والتمييز بين رسالتين اثنتين، فجعل آدم وذريته على “الدين الفطري”، ولم تكن رسالته إلى بنيه “رسالة شرعية”، بخلاف الرسل الآخرين كنوح ومن بعده، فإنهم بعثوا إلى قوم مكذبين معرضين عن الحق، فكانت رسالتهم إلى أقوامهم “رسالة شرعية”، وأصحابها هم الذين يسمون رسلا، أما آدم، فهو وإن أثبتنا له الهداية والعبادة وغيرهما، فإننا لا نسمي ذلك رسالة بالمعنى الشرعي، فيندفع التعارض بدون تكلف.
وبعد هذه الجولة الحجاجية في الموضوع، ختم الشيخ رشيد رضا مناقشته المسهبة بجملة ملتبسة، فقال: “تصح الأقوال كلها ويكون الخلاف أشبه باللفظي، فهو رسول بالمعنى المشهور عند المتكلمين دون المعنى المتبادر من القرآن والحديث”[21].
مناقشة وتعليق:
بعد سرد أقوال الشيخ رشيد رضا في الموضوع، يتبين لكل قارئ أنه صدر عنه القول وضده، ولو أردنا أن نرد على أقواله لما وجدنا أفضل من أقواله، ولو أتينا بتنقيداته التي سجلها على مقال الأستاذ محمد فريد وجدي لساغ لنا أن ننشرها بعنوان “رد رشيد رضا على رشيد رضا”، وذلك للآتي:
** ذكر في رأيه الثالث أن الوحي الذي تلقاه آدم ليس وحي الرسالة بل هو من الوحي العام الذي يتلقاه غير الأنبياء، وهذا الرأي ذاته رده على وجدي وعدّه سقطة كبيرة.
** وقال في موقفه الثالث بأن عهد آدم وبنيه لم يكن في حاجة إلى شرع لكونهم على الفطرة، وهو الموقف ذاته الذي نعاه على وجدي وعدّه ظاهر البطلان.
** ذكر في موقفه الثاني أن نبوة آدم ثابتة لكن دليلها ظني، ونفى تلك النبوة في موقفه الثالث لأنها من القضايا العقدية التي لا يُقبل فيها إلا القطع، أما في موقفه الأول فيبدو أنه كان يقول بقطعية الدليل بناء على ميله إلى التكفير.
وبعد هذه الملاحظات المستخرجة من أقوال الشيخ رشيد، يجمل بنا أن نشير إلى أننا لم نستطع الحسم في التراتبية الزمنية لأقواله كلها، إلا أنه ترجح لدينا أن رأيه الثالث المنكر للنبوة والرسالة معا هو المتأخر، ما حتم علينا إخضاع أدلته وحججه إلى المراجعة والدراسة.
أولا: دعوى أن القضايا العقدية لا تثبت إلا بدليل قطعي.
يمكن اعتبار هذه الدعوى بهذا العموم والإطلاق بدعةٌ تنويرية مخالِفة لما تقرر عند أهل العلم منذ قرون خلت، وقد أشار إليها وانتصر لها غير واحد من التنويريين من خريجي مدرسة محمد عبده كالشيخ محمد رشيد رضا والشيخ عبد الوهاب النجار والشيخ محمود شلتوت وغيرهم، وقد رد عليهم الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري بدقة ورصانة علمية بعيدة عن الإنشائيات، وملخص رده أن قضايا العقيدة ومباحثها تنقسم عند العلماء إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الإلهيات، وهي ما يتعلق بالله تعالى وجوبا واستحالة وجوازا.
القسم الثاني: النبويات، وهي ما يتعلق بالأنبياء والملائكة عليهم السلام.
القسم الثالث: السمعيات، وهي ما يتعلق بما بعد الموت من حشر وعذاب ونعيم ….
أما ما يتطلب الدليل القطعي مما سبق فهو أمران:
أ ــ قسم الواجب في الإلهيات، أما الجائز فيكتفى فيه بالدليل الظني كالحديث الصحيح، لأنه فرع عن ثبوت القدرة لله تعالى الثابتة بالدليل القطعي.
ب ــ في النبويات نحتاج إلى الدليل القطعي في إثبات النبوة وحاجة الناس إليها، وفي إثبات نبوة شخص معين أو تعيين ملك بالذات، أما غير هذا من النبويات فلا يطلب فيها القطع[22].
وهذا التفصيل هو المعتمد المقرر عند علماء ما قبل مرحلة التنوير، أما اختراع هذه القاعدة/البدعة التنويرية فلا أراها مستندة إلى دليل، إضافة إلى أن أصحابها يمارسون بها التدليس على القراء، ومن هذا التدليس قول رشيد رضا: “لا ينهض برهان شرعي على مسألة اعتقادية إلا إذا كان نصا قطعيا لآية قرآنية أو حديث متواتر، لأن أخبار الآحاد وإن صحت فهي ظنية الدلالة، والظن في الاعتقاد ضلال، قال تعالى: “إِنَّٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡـًٔاۚ” [يونس: 36]، وقال: “فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَٰلُۖ” [يونس: 32]، وإذا كانت الأحاديث الصحيحة غير المتواترة لا يحتج بها في المسائل الاعتقادية بالاتفاق …”[23]، ولست أدري من أين حصّل هذا الاتفاق؟ وأين وقع؟ بل لو ادعينا الاتفاق على عكس مقوله لكان أولى.
ومن المسائل العقدية التي ليس لها دليل قطعي: بعض أسماء الله الحسنى، والصفات الإلهية وهل هي عين الذات أو زائدة عنها، ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم (مثل: نبع الماء من أصابعه الشريفة وتسبيح الحصى وانفلاق القمر)، وسؤال منكر ونكير، وعذاب القبر، وغير ذلك من القضايا المدرجة في المباحث العقدية.
ومن عجائب الشيخ رشيد رضا أنه أجاب سنة 1350هـ عن سؤال حول عذاب القبر فقال: “عذاب القبر ثابت بالأحاديث الصحيحة وأنه يكون عقب الدفن، وإضافته إلى القبر مبنية على أن الغالب في الموتى أنهم يدفنون في القبور لا على أنه خاص بمن يدفن، …، ومتى صح الخبر عن عالم الغيب فالواجب الإيمان به”[24]. وفي هذا الجواب خالف قاعدته وهدمها مرتين:
المرة الأولى: حين أثبت عذاب القبر بالأحاديث الصحيحة التي لم تبلغ درجة القطع – لعدم تواترها – رغم أنه من القضايا العقدية.
المرة الثانية: ذكر أن صحة الخبر كافية للإيمان بالغيبيات وإثباتها، وهي مسائل اعتقادية كما هو معلوم. وصحة الخبر لا تخرجه عن دائرة الظن.
وفتواه هذه لها أهميتها لتأخرها الزمني، فهي دالة على اضطراب أقواله أو على رجوعه عن قاعدته المبتدَعة.
ثانيا: نبقى مع قاعدته السابقة وهي أن القضايا العقدية لا تثبت إلا بالدليل القطعي.
فما معنى الدليل القطعي؟
قد نفهم بأن الدليل القطعي هو الدليل القطعي الثبوت الذي ينص نصا لا لبس فيه على شيء بعينه، كإثبات رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡخَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ” [آل عمران: 144]، وقوله جل وعز: “مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ” [الفتح: 29]، وهذا فهمٌ ضيق لمعنى الدليل القطعي، لأن قطعية الدليل قد تكون بالنص كما مثلنا له، وقد تكون بتضافر الأدلة وتعاضدها، مثل أفضلية الأنبياء على الأولياء، وأفضلية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق، فإنها من المعتقدات القطعية عند علماء الإسلام بإجماع إلا من شذ.
ونبوة آدم مما تضافرت حولها الأدلة القرآنية والحديثية كما سنجلي ذلك، وهذا التعاضد يرتقي بها إلى درجة القطعي.
وقد بيّن الإمام الغزالي أن الخبر يفيد الظن، لكنه قد يفيد العلم إذا اعتضد بالعدد أو بالقرائن، بل “إن مجرد القرائن قد يفيد العلم وإن لم يكن فيه إخبار”، وضرب لذلك أمثلة من القرائن وقال عقبها: “لو أُفردت آحادها لتطرق إليها الاحتمال، ولكن يحصل القطع باجتماعها”، ومثله قول كل واحد من عدد التواتر، فإنه يتطرق إليه الاحتمال للانفراد، “ويحصل القطع بسبب الاجتماع”، وبعد إيراد بعض الأمثلة خلص الإمام الغزالي إلى أن “اقتران الدلائل كاقتران الأخبار وتواترها، وكل دلالةٍ شاهدةِ يتطرق إليها الاحتمال كقول كل مُخبر على حياله، وينشأ من الاجتماع العلمُ”[25].
وهذا نص إمامٍ خبير في علمي المنطق والأصول مدركٍ لخوافيهما يبين مفهومَ القطع ومسالكه، وليس كما حاول أن يفهمه الشيخ رشيد رضا.
وبناء على ما سبق، فإن نبوة آدم تنبني على دليل قطعي، وقطعيته تستفاد من اقتران دلالات الآيات والأحاديث، وهي أقوى من اقتران القرائن كما قرر الغزالي رحمه الله.
ثالثا: استدل رشيد رضا على نفي نبوة آدم عليه السلام بكون الوحي الذي تلقاه من الله لا يدل على وحي الإنباء، بدليل أن الجمهور لا يجعلون كل وحي نبوة، لذلك لا يقولون بنبوة أم موسى ومريم رغم تلقيهما للوحي.
وهذا التوجيه لا ينهض دليلا في الموضوع، لأن الوحي بمعناه العام تلقته أم موسى ومريم، كما تلقاه الحواريون، “وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ” [المائدة: 111]، وتلقاه النحل والسموات والأرض، قال تعالى: “وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ” [فصلت: 12]، وقال أيضا: “إِذَا زُلۡزِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ زِلۡزَالَهَا وَأَخۡرَجَتِ ٱلۡأَرۡضُ أَثۡقَالَهَا وَقَالَ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا لَهَا يَوۡمَئِذٖ تُحَدِّثُ أَخۡبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوۡحَىٰ لَهَا” [الزلزلة: 1-5]، والوحي الموجه إلى الأنبياء وحيٌ خاص بدليل مجموعة من القرائن والأمارات، منها أنه يتضمن تبليغ رسالة كالإنذار أو التبشير أو التشريع، وهذا ما نجده في الوحي المتلقى من قِبل آدم عليه السلام، فإنه تضمن تشريعات متعددة بلغها لبنيه، منها:
** علّمهم تقريب القرابين. “وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ” [المائدة: 27].
** تعلّموا منه أن الله لا يتقبل إلا من المتقين، “قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ”. [المائدة: 27].
** علّمهم الخوف من الله، وهو من القضايا الشرعية التي لا تدرك بالعقول، “إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ”. [المائدة: 28].
** علمهم مفاهيم شرعية أخرى، كمفهوم الإثم، والإنذار بالنار، وأنها جزاء الظالمين، “إِنِّيٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثۡمِي وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِۚ وَذَٰلِكَ جَزَٰٓؤُاْ ٱلظَّٰلِمِينَ”. [المائدة: 29].
وهذه المفاهيم والتعليمات هي تشريعات وأحكام، وليست من قبيل الوحي الذي تلقته أم موسى ومريم والنحل والسموات والأرض.
رابعا: لعل الشيخ رشيد رضا أحس بضعف استدلاله السابق، فاضطر لإفراغ الخطاب الذي تلقاه آدم من ربه من محتوى النبوة، فما كان منه إلا أن جعله خطاب تكوين لا خطاب تكليف، فجعل خطاب الله لآدم كخطابه الموجه للسماء والأرض “ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا”، وغني عن البيان أن هذا التشبيه لا يقبله عاقل، لأن خطاب الله لآدم تضمن تشريعات وأحكاما ذكرنا بعضها، وخطاب الله للسموات والأرض خلو من الأحكام الشرعية.
خامسا: مما يثير التعجب في هذا المقام، أن الشيخ رشيدا لم يذكر في موقفه الثالث النافي لنبوة آدم قوله تعالى: “إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ” [آل عمران: 33]، كما لم يذكر قوله جل وعز: “ثُمَّ ٱجۡتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيۡهِ وَهَدَىٰ” [طه: 122]، ولا أراه أقصى هاتين الآيتين رغم أهميتهما في الموضوع إلا لأنهما لا تسعفانه في تحقيق مراده الذي يريد ترسيخه في ذهن القارئ، إذ اصطفاء آدم على العالمين واجتباءه لا مدلول لهما إلا النبوة، خصوصا إذا اعتضدت الآيتان بما أوحي إليه من التشريعات التي بلغها لبنيه[26].
سادسا: استدل الشيخ رشيد على نفي رسالة آدم بقوله تعالى: “إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ” [النساء: 163]، ووجه الاستدلال بالآية أن آدم لو كان أول الأنبياء المرسلين لكان ذكره في الآية أولى من ذكر نوح.
وهذا الاستدلال قد يستسيغه القارئ لأول وهلة، لكن بعد التأمل في الآية يتبين لنا أن مفهومها لا يدل على أولية نبوة أو رسالة نوح، بل يدل على التشابه بين رسالته ورسالة سيدنا محمد عليهما السلام من وجه واحد، وهو أن كليهما بُعث إلى أمة من المكذبين المعاندين، أما سيدنا آدم عليه السلام فلم يبعث في قوم مكذبين، بل بعث إلى بنيه وذويه فقط، ولم يثبت عنه أنه تعرض للتكذيب والعناد مثل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لذا لم يكن من السائغ جعلُه مشبها به في الآية لانعدام وجه الشبه، يؤكد ذلك ويعضده أمران:
الأول: ركز سياق الآية ذاتها على الحديث عن الكفار والمكذبين وأساليبهم وعنادهم، فذكر الله المعاندين من أهل الكتاب وخطابه لهم: “إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأۡتِ بِـَٔاخَرِينَۚ” [النساء: 133]، ثم جدد دعوتهم إلى الإيمان وتحذيرهم من الكفر، ثم أبرز إمعانهم في الكفر بالعودة المتكررة إليه: “إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ سَبِيلَۢا” [النساء: 137]، ثم تحدث عن المنافقين وولائهم للكفار واستهزائهم بآيات الله وخداعهم لله تعالى، ثم تحدثت الآية عن عناد الكافرين من خلال التفرقة بين الله ورسله “وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا” [النساء: 150]، وبعد ذلك بيّن الله تعالى أن هذا العناد كان عند قوم موسى الذين سألوا الله أكثر من هذا، فطالبوا رؤية الله جهرة واتخذوا العجل ونقضوا الميثاق وقتلوا الأنبياء، وبعد هذا السرد قال الله تعالى: “إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا” [النساء: 163]، وكل هؤلاء المذكورين لقوا تكذيبا وعنادا من أقوامهم، ثم قال تعالى بعدها ما له علاقة بالعناد والإصرار على الكفر، “إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدۡ ضَلُّواْ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا، إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا، يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلۡحَقِّ مِن رَّبِّكُمۡ فَـَٔامِنُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا” [النساء: 167-170]، وهذه التفاصيل المذكورة هنا لم توجد في ذرية آدم وبنيه الذين بُعث إليهم، لذا ذكر الله تعالى نوحا ومَن بعده من الأنبياء مواساة للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له، وكأنه يقول له: لست أول رسول يتعرض للتكذيب، وما يقع لك سبق أن وقع لنوح ومن بعده من الأنبياء والمرسلين.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ” [الشورى: 13]، فإنه ذكر أولي العزم من الرسل ابتداء من نوح، وعطف على ذلك قوله عن المشركين المعاندين: “كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ” [الشورى: 13]، وذِكرُ آدم في هذه الآية والآية السابقة لا مناسبة له، لأنه لم يبعث إلى قوم مشركين معاندين.
ومثلها أيضا قوله تعالى: “وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِيثَٰقَهُمۡ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۖ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا” [الأحزاب: 7]، ذكرت الآية نوحا ومن بعده، ولم تذكر آدم، لأن المذكورين الخمسة كُذبوا فناسب أن يعطف الله على الآية قولَه: “وَأَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابًا أَلِيمٗا”، ولو ذُكر آدم لما استقام نظم الآية، لأنه لم يكن في بنيه وذريته كفار يشملهم هذا الوعيد.
الثاني: مما يدل على ما ذهبنا إليه، أن الله تعالى شبّه الوحي الخاص بسيدنا محمد بالوحي الخاص بسيدنا نوح وغيره من الأنبياء عليهم السلام، وفي المقابل، شبه تكذيب سيدنا محمد بتكذيب سيدنا نوح وغيره من الأنبياء، فقال جل وعز: “وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدۡ كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَعَادٞ وَثَمُودُ وَقَوۡمُ إِبۡرَٰهِيمَ وَقَوۡمُ لُوطٖ وَأَصۡحَٰبُ مَدۡيَنَۖ وَكُذِّبَ مُوسَىٰۖ فَأَمۡلَيۡتُ لِلۡكَٰفِرِينَ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ” [الحج: 42-44]، وعدم ذكر سيدنا آدم هنا ليس لأنه لم يكن نبيا، وإنما لأنه لم يتعرض للتكذيب كما تعرض إليه المذكورون.
ونظرا لأن قوم نوح كانوا أول المكذبين المعاندين، فإن الله تعالى افتتح بهم مرات متعددة، فقال: “كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَعَادٞ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطٖ وَأَصۡحَٰبُ لۡـَٔيۡكَةِۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡأَحۡزَابُ، إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ” [ص: 12-14]، وقال أيضا: “كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَأَصۡحَٰبُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٞ وَفِرۡعَوۡنُ وَإِخۡوَٰنُ لُوطٖ وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡأَيۡكَةِ وَقَوۡمُ تُبَّعٖۚ كُلّٞ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ” [ق: 12-14].
وبما أن قوم نوح هم أول المشركين المكذبين المعاندين لرسلهم، فإن الرسل كانوا يفتتحون حديثهم مع أقوامهم بذكرهم للاعتبار والاتعاظ، فقال شعيب عليه السلام: “وَيَٰقَوۡمِ لَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شِقَاقِيٓ أَن يُصِيبَكُم مِّثۡلُ مَآ أَصَابَ قَوۡمَ نُوحٍ أَوۡ قَوۡمَ هُودٍ أَوۡ قَوۡمَ صَٰلِحٖۚ وَمَا قَوۡمُ لُوطٖ مِّنكُم بِبَعِيدٖ” [هود: 89]، وقال موسى عليه السلام: “أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرَدُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فِيٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَقَالُوٓاْ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَنَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ”. [إبراهيم: 9].
من هنا يتبين لنا أن تشبيه ما أوحي به إلى سيدنا محمد بما أوحي به إلى سيدنا نوح عليهما السلام لم يكن للرسالة ذاتها، وإنما لما تعرضا له من التكذيب والعناد من قبل المشركين، لدرجة أن كليهما كان يتألم ويتأسف لما يصدر عن المشركين من إسراف في التكذيب ومبالغة في العناد، فقال الله تعالى عن سيدنا نوح عليه السلام: “وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن يُؤۡمِنَ مِن قَوۡمِكَ إِلَّا مَن قَدۡ ءَامَنَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ” [هود: 36]، ولا تبتئس بمعنى لا تحزن، وهو مماثل لشدة حزن النبي صلى الله عليه وسلم بعد إصرار قومه على الكفر: “فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا” [الكهف: 6]، ولم يصدر هذا الحزن والأسف عن سيدنا آدم لعدم وجود مكذبين في بنيه.
سابعا: حاول البعض الجمع بين النصوص القرآنية الدالة على نبوة آدم ورسالته وبين حديث الشفاعة الذي يُفهم منه أن نوحا أول رسول إلى أهل الأرض، فقالوا بأن أدم أول رسول، وكانت رسالته إلى ذويه وبنيه المقربين، أما نوح فلم تكن رسالته إلى ذويه بل إلى عامة قومه، لذلك قال المستشفعون: “يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض”. والجمع بين الدليلين سائغ مقبول لا تعسف فيه، وعبارة “أهل الأرض” تعني عامة الناس، أو عامة القوم، أو غيرها من المعاني، وهذا استعمال عربي أصيل، واستعمال قرآني أيضا، لكن الشيخ رشيد رضا لم يرتض مسلك الجمع، ولما لم يجد سبيلا إلى رده، لجأ إلى تمييع النقاش، فرده اعتمادا على أن ذرية آدم وبنيه كانوا أيضا من أهل الأرض ولم يكونوا من أهل السماء !. وكأن الأرض لا تستعمل في اللغة العربية إلا قسيما للسماء، ولم يلتفت إلى قوله تعالى: “إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ” [المائدة: 33]، فهل النفي من الأرض يراد به إخراج المعاقَبين إلى السماء؟ ومثل هذه الآية قوله تعالى: “وَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ” [الإسراء: 76]، والمراد إخراجه من أرضه/بلده إلى أرض أخرى، وليس إخراجه من الأرض إلى السماء، فهاتان الآيتان تفيدان أن الأرض في الاستعمال العربي ليست دائما قسيم السماء، فتبين وهاء ما ذهب إليه رشيد رضا وضعفه، وبقي مسلك الجمع الذي انتهجه العلماء ثابتا لم يتأثر بنقد صاحب المنار.
ثامنا: ادعى الشيخ رشيد رضا أن آدم كان على هداية من الله، وأن تلك الهداية قد تكون كل شيء إلا الوحي، فقد تكون فطرة فطره الله عليها، ومن المحتمل أن يكون آدم قد تلقى إلهاما من الله تعالى أو إرشادا من الملائكة، وكان أبناء وأحفاد آدم يرون الملائكة بسبب صفاء فطرتهم، وأن آدم كان على الدين الفطري ولم تكن رسالته رسالة شرعية، إلخ كلامه، وهذا كله من التمحلات والاحتمالات والتوليدات التي لا يُبنى بها قولٌ ولا يُنقَض بها قول، بل إن منهج رشيد رضا هو أول من ينقضها[27].
تاسعا: قال رشيد رضا في ختام مناقشته للمسألة: “تصح الأقوال كلها ويكون الخلاف أشبه باللفظي، فهو رسول بالمعنى المشهور عند المتكلمين دون المعنى المتبادر من القرآن والحديث”، وهذا قول لا زمام له ولا خطام، وأستغرب صدوره من قامة علمية كالشيخ رشيد، لأنه إن كان الخلاف خلافا لفظيا فلماذا كانت هذه الاستدلالات والانتقادات والتحولات في الأقوال؟، وكيف يكون آدم رسولا بالمعنى المشهور عند المتكلمين؟ وكيف لا يكون رسولا بالمعنى المتبادر من القرآن والحديث؟ وما الفرق بين الرسول عند المتكلمين والرسول في القرآن والسنة؟ وكيف تصح الأقوال كلها وفيها إثبات النبوة ونفيها؟ ألا يصيب هذا بالدوار؟[28].
بعد هذه المناقشة والتعليقات، يتبين أن ما أورده الشيخ رشيد رضا من استدلالات ومناقشات لم يقو على نقض الإجماع المتحقق في نبوة آدم، وأن هذه القضية ليست إلا نموذجا من نماذج بعض الفقاعات الفكرية التي اشتهر بها أرباب ما يصطلح عليه بمدرسة الإصلاح والتجديد، وأن التجديد عندهم لم يكن له من معنى – أحيانا – إلا في اختلاق القطيعة مع القديم ولو بالتمحلات التي تؤثر في العامة ولا تصمد أمام العلماء.
أدلة نبوة آدم:
استدل القائلون برسالة آدم ونبوته على أدلة متعددة، منها[29]:
الأول: قوله تعالى: “إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ” [آل عمران: 33]، والاصطفاء المذكور اصطفاء نبوة ورسالة، مثل اصطفاء غيره من المرسلين، كـ:
** اصطفاء إبراهيم: “وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ” [البقرة: 130].
** اصطفاء إبراهيم وإسحاق ويعقوب: “وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَيۡنَ ٱلۡأَخۡيَارِ” [ص: 47].
** اصطفاء موسى: “قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّي ٱصۡطَفَيۡتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي فَخُذۡ مَآ ءَاتَيۡتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ” [الأعراف: 144].
والاصطفاء تفضيل، ومنه قوله تعالى: “وَإِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطٗاۚ وَكُلّٗا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ” [الأنعام: 86]. ولا ينقض هذا الاستدلال اصطفاءُ مريم، لأن اصطفاءها على نساء العالمين فقط، وليس على العالمين أو على عموم الناس.
الثاني: كلم الله تعالى آدم عليه السلام، وتضمن كلامه أمرا ونهيا، وهذه هي النبوة.
الثالث: تعليم الله لآدم كما في قوله تعالى: “وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا” [البقرة: 31]، وباستقراء آي القرآن وتتبعها، تبين للعلامة عبد الله بن الصديق الغماري أن تعليم الله لشخص بعينه لم يقع إلا للأنبياء، مثل:
** سيدنا لوط عليه السلام: “وَلُوطًا ءَاتَيۡنَٰهُ حُكۡمٗا وَعِلۡمٗا” [الأنبياء: 74].
** سيدنا يوسف عليه السلام: “وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ” [يوسف: 21] و”وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥٓ ءَاتَيۡنَٰهُ حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ” [يوسف: 22] و”ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ” [يوسف: 37].
** سيدنا يعقوب عليه السلام: “وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلۡمٖ لِّمَا عَلَّمۡنَه” [يوسف: 68].
** سيدنا موسى عليه السلام: “وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَٱسۡتَوَىٰٓ ءَاتَيۡنَٰهُ حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ” [القصص: 14].
** سيدنا داود عليه السلام: “وَعَلَّمۡنَٰهُ صَنۡعَةَ لَبُوسٖ” [الأنبياء: 80]. و”وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ” [البقرة: 251].
** سيدنا داود وسيدنا سليمان عليهما السلام: “وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ” [الأنبياء: 79]. “وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ عِلۡمٗاۖ” [النمل: 15].
** سيدنا عيسى عليه السلام: “وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ” [آل عمران: 48].
** سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: “وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ” [النساء: 113]، وكما أن الله يُعلم نبيه، فإنه لا يعلمه أشياء أخرى، مثل: “وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ” [يس: 69].
وإذا كان القرآن على هذا السَّنن، فلا وجه ليشذ سيدنا آدم عليه السلام عن هذه القاعدة الاستقرائية، فكان تعليم الله تعالى له دليلا على نبوته.
الرابع: ذكر الله تعالى آدم وموسى وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وداود، وقال بعد ذلك: “تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ” [البقرة: 253]، و”تلك” تفيد الإشارة إلى المذكورين ومنهم آدم، فدلت الآية على أنه من الرسل، وهذه الآية مثل قوله تعالى بعد أن ذكر جماعة من الرسل: “أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَۚ” [الأنعام: 89]، فـ”أولئك” في هذه الآية مثل “تلك” في الآية الأخرى، كلتاهما تدلان على الإشارة للمذكورين.
الخامس: وردت بعض الأحكام والتقريرات الشرعية في قصة ابني آدم، وهي تقريرات لا تُدرك بالعقول، مثل تقديم القربان ونفي القبول إلا من المتقين، وإثم القاتل، والإشارة إلى بعض أصحاب النار، ولا سبيل لإدراك هذه القضايا الشرعية إلا عن طريق رسول، وهو أبوهم آدم لا أحد سواه.
هذه أهم الأدلة القرآنية الدالة على نبوة آدم ورسالته، ولم أذكر الأدلة الحديثية لعدم وجود حديث صريح صحيح في الموضوع، لكنها بمجموعها حجة بلا نقاش، إضافة إلى دليل الإجماع في القضية، وقد حكاه غير واحد من العلماء.
خاتمة:
لقد اقتحم بعض المتصفين بالتجديد والتنوير حمى بعض القضايا العلمية الشائكة بزاد علمي قليل، خصوصا في علمي الحديث والأصول، فصدرت عنهم مناقشات غير علمية، وما رأيناه من تمحلات للشيخ رشيد رضا خير نموذج لذلك، ولا تقل مناقشات مصطفى المراغي ومحمد فريد وجدي وعبد الوهاب النجار ومحمود شلتوت وأبي زيد الدمنهوري وغيرهم عن هذا النموذج، مع أن مناقشاتهم مست قضايا عقدية وفقهية.
وأختم بالإشارة إلى أن الحديث عن لا قطعية دليل نبوة آدم كان العتبة الأولى للوصول إلى إنكار نبوته بالمرة، وهذا الإنكار من رشيد رضا هو الذي أثمر وأينع مع “مجدد” و”تنويري” آخر هو عز الدين بليق الذي تجاوز كل الحدود، فقال: “لم يرد [كذا] في القرآن أية إشارة إلى نبوة ورسالة آدم عليه السلام، بل وردت إشارات إلى موانع النبوة مثل قوله سبحانه: “وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ” [طه: 121]، وأن آدم عليه السلام كان مفتقرا إلى أهم خصائص النبوة والرسالة (العزيمة)، وقد أشار إلى ذلك المولى عز وجل: “وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا” [طه: 115]”[30].
الهوامش:
[1] تفسير عبد الرزاق: 1/330.
[2] رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده: 46.
[3] عبد الوهاب النجار، قصص الأنبياء: 24. مطبعة النصر بمصر، ط: 2، 1936 ــ 1355.
[4] ابن عاشور، التحرير والتنوير: 7/346.
[5] ابن باديس عبد الحميد، العقائد الإسلامية: 108.
[6] مجلة المنار: 2/475.
[7] محمد رشيد رضا، تفسير المنار: 3/237.
[8] مجلة المنار: 10/375. مقال محمد رشيد رضا بعنوان: “كلام فريد أفندي وجدي في الدين وفلسفة التشريع”.
[9] مجلة المنار: 10/456. مقال محمد رشيد رضا بعنوان: “الانتقاد على محمد فريد أفندي وجدي ج 2”.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك