معلمة "فران الشطة".. احتضار آخر الأفران التقليدية بالمدينة العتيقة لفاس

معلمة "فران الشطة".. احتضار آخر الأفران التقليدية بالمدينة العتيقة لفاس
مستجدات / الجمعة 01 نوفمبر 2024 12:29:03 / لا توجد تعليقات:

مغربنا 1 المغرب

بأحد الدروب الضيقة لحومة كرنيز بالمدينة العتيقة لفاس، حيث يفوح عبق التاريخ التليد، مازال فرن الشطة تنبعث منه رائحة الخبز “البلدي” الذي يتم تحضيره على نار الحطب الهادئة، وذلك بالطريقة نفسها التي كان يطهى بها الخبز في الأفران التقليدية منذ قرون، ما يثير فضول المارة، من السياح المغاربة والأجانب.

ورغم أن عمر هذا الفرن يزيد عن 7 قرون، إذ يرجع تاريخ بنائه، حسب صاحبه محمد زركان، إلى عهد الدولة المرينية في القرن 13 الميلادي، فإنه بمحافظته على هويته الأصيلة في طهي الخبز بالطريقة المتوارثة عن الأجداد بات يشكل معلما تراثيا يشهد على احتضار هذا النوع من الأفران العريقة التي كانت تعج بها مختلف أحياء المدينة العتيقة لفاس.

جراء زحف نمط الحياة الحديثة، توقفت جل الأفران التقليدية بالمدينة العتيقة لفاس عن العمل، ولم يتبق منها إلا اثنان أو ثلاثة، من ضمنها “فران الشطة” الذي مازال صامدا يقاوم زحف الأفران المنزلية العاملة بالغاز أو الكهرباء، والأفران العصرية التي تقبل معظم الأسر على استهلاك خبزها المعروض بمختلف الدكاكين والمخابز.

ورغم أن “فران الشطة” لم يعد يستقبل إلا عددا محدودا من “وصلات” الخبز، وبات زبائنه يتراجعون يوما بعد يوم، فإن محمد زركان، البالغ 56 سنة، يرفض التخلي عن فرنه، الذي بدأ العمل فيه قبل حوالي نصف قرن من الزمن عندما كان عمره 7 سنوات، متشبثا بمواصلة مسيرته الطويلة في تحضير طلبات زبائنه الذين مازالوا يفضلون الرغيف الذي يطهى بالتقنية القديمة.

ويستلم محمد “وصلات” أقراص عجين الخبز من زبائنه والبسمة تعلو محياه، ليرمي بها داخل فرنه الذي تضيء فوهته ألسنة النار الخافتة، قبل أن يخرج الخبز ناضجا بعد أن يكون قد قلبه برفق على وجهيه، ليكتسب لونه وطعم المميزين.

يقر محمد زركان، في حديثه مع هسبريس، بالتراجع الكبير للإقبال على فرنه التقليدي، موضحا أنه، وإلى عهد قريب، دأب على الاشتغال داخل محله 5 أشخاص، وبصفته صاحب المحل، كان يقتصر دوره على مراقبة العمل، قبل أن يضطر، تحت وطأة حدة ضعف المداخيل، إلى العمل بنفسه داخل فرنه.

ويضيف محمد أن أغلب الأسر التي كانت تعتمد على الفرن الشعبي أصبحت تفضل خبز الأسواق، أو طهي خبزها في الأفران المنزلية العاملة بالغاز أو الكهرباء، مردفا بأن أسرا قليلة مازالت متشبثة بطهي الخبز الذي تستهلكه في فرن الحطب.

وتابع صاحب “فران الشطة” بأنه، إلى جانب تحضير الخبز، يتولى داخل فرنه طهي ما تعده الأسر من حلويات وأطباق، موضحا أن طريقة الطهي داخل الفرن التقليدي، على نار الحطب الهادئة، لا يضاهيها، من حيث اللذة والسلامة الصحية، إعداد الوجبات داخل الأفران الغازية.

ووفق صاحب “فران الشطة” فإن تداعيات احتضار الأفران التقليدية طالت، أيضا، دورها الاجتماعي كرمز لعادات أصيلة وسمت الحياة الشعبية بالمدينة العتيقة لفاس، مبرزا أن ربات البيوت بأحياء “المدينة” كن لا يتحملن عبء إيصال “وصلة” الخبز إلى الفرن أو استعادتها منه، بل يكتفين بتكليف أي طفل أو شخص عابر للزقاق بذلك.

من جانبها، قالت فتيحة، إحدى ساكنات درب السراج، التي كانت تستعد لطهي بعض من الحلويات التي أعدتها بأناملها بـ”فران الشطة”، إنها تعمد، فضلا عن طهي خبزها وحلوياتها بفرن محمد زركان، إلى طهي ما تعده من دجاج محمر وأطباق البسطيلة والطاجين والطنجية و”لحم العيد” داخل الفرن ذاته.

وأضافت ربة البيت ذاتها، في حديثها مع هسبريس، أن عددا من الأسر عادت لاستهلاك خبز الفرن التقليدي الذي وصفته بـ”خبز الدار”، مشيرة إلى أن “الخبز الأبيض الذي يباع في السوق قد يشكل خطرا على الصحة؛ لاعتماده على الكثير من مادة السكر، لإعطائه لونه الجذاب، بالإضافة إلى افتقار الدقيق المستعمل في تحضيره لعدد من مكونات القمح الأساسية”.

وكما منت فتيحة النفس باستمرار الفرن التقليدي في القيام بدوره التاريخي في طهي الخبز، عبر مصطفى الدربي، أحد الساكنة المجاورة لـ”فران الشطة”، عن أسفه العميق لاحتضار الأفران التقليدية، واصفا فرن محمد زركان بـ”التحفة التي مازالت تؤثث المشهد والنسيج العتيق لمدينة فاس”.

“في طريقنا إلى المدرسة، كنا نوصل خبز ربات البيوت بفرح كبير إلى الفرن.. لقد كانت العلاقات الاجتماعية بين الناس تطغى عليها الثقة ويميزها التعاون”، يتذكر مصطفى الدربي، وهو يتحدث للجريدة، مؤكدا أن أمورا جميلة كثيرة كانت تسم الحومة وأزقة المدينة العتيقة لفاس أضحت حكايات من الماضي.

ولا تمس ظاهرة الاندثار الحرف العريقة وحسب، وفق مصطفى الدربي، بل تطال كل ما ارتبط بها من علاقات اجتماعية وعادات وتقاليد نبيلة، التي قال إنها كانت تساهم، على مر التاريخ، في الارتقاء بجمالية العيش المشترك داخل دروب وأحياء المدينة العتيقة لفاس.

عن هسبريس

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك