مغربنا 1 المغرب
تحتضن منطقة اشتوكة السهلية، جنوب مدينة أكادير، تراثا أثريا متنوعا، من أبرز ما أفرزه كونها من المناطق المغربية ذات التاريخ الموغل في القدم، باعتبارها مجالا للاستقرار البشري ولعبور القوافل التجارية الصحراوية الرابطة بين المغرب وبلاد السودان، إذ تنتشر بمختلف مناطق اشتوكة السهلية مواقع أثرية وتاريخية تدل على عراقة الحياة البشرية وعطائها الحضاري بالمنطقة، واليوم تحتاج إلى كثير من التنقيب من أجل الكشف عنها ودراستها باعتبارها تحمل تاريخا للمنطقة في حقب غابرة.
ومن أبرز هذه المواقع موقع “إداوماكاز”، الذي يتواجد غير بعيد عن دوار أسرسيف في الجماعة الترابية أيت ميلك، فوق جرف صخري يشرف على مساحات شاسعة من كل الجهات، ما يدل على أهميته الإستراتيجية والدفاعية. ووقف الطالب الباحث في سلك الدكتوراه عيسى بودي على تواجد كم هائل من اللقى الأثرية، كالبقايا الخزفية، ما يبين أن الموقع “كان قد عرف استقرارا بشريا قديما، وهذا ما أكدته بعض الروايات الشفوية؛ إضافة إلى تواجد عدة مطفيات متنوعة الأحجام كانت تستغل لتخزين المياه. وتظهر كذلك بقايا أساسات بنايات ربما تعود لبعض المنازل، إضافة إلى مجموعة من المغارات التي كانت تستغل لتقديم قرابين لغرض أعمال الشعوذة”.
وبالجماعة نفسها، أيت ميلك، يتواجد أيضا موقع آخر يسمى “تماليحت”، وهو، وفقا للباحث عيسى بودي، عبارة عن بقايا ملاح في وسط قروي، وسط قبيلة أيت إلوكان، “وقد أصبح حاليا عبارة عن موقع أركيولوجي بعد أن هجره سكانه اليهود في النصف الأول من القرن العشرين، وأصبح يشكل جزءا من مدشر يدعى حاليا إمغارن”، وزاد: “لا شك أن ‘تـماليحت’ كانت مركزا حرفيا وتجاريا مزدهرا، إذ كانت تتوقف فيها القوافل التجارية المتجه نحو الجنوب، لتبادل السلع”.
أما في جماعة إنشادن، وبالقرب من مركز أربعاء أيت بـوالطيب، فيتواجد موقع “تاسرا”، “وهو عبارة عن بقايا من الأحجار وأساسات بعض المنازل؛ ولم تسلم من عوامل الزمن به سوى بناية يعتقد أنها كانت مسجدا؛ ويظهر من خلال المعاينة التي قمنا بها في المكان أنه كان مركزا سكانيا كبيرا يضم العديد من المساكن، التي بنيت كلها بتقنية التراب المضغوط، وربما كان محاطا بسور ذي أبراج، ويظهر ذلك من خلال بقايا أساسات السور، وركام الأحجار والتراب الناتج عن تخريب هذه الأبراج”، يورد عيسى بودي.
وبالجماعة ذاتها، غرب مركز أربعاء أيت بوطيب، يتواجد موقع “تبوحنايكت”، “وتكمن أهميته التاريخية في كونه شهد مواجهة بين محلة المولى عبد العزيز وقبائل اشتوكة سنة 1896م؛ وبعد ذلك أرسل المولى عبد العزيز محلته وخيمت وسط سهل اشتوكة بموقع تبوحنايكت سنة 1314-1896، فقامت اشتوكة ومن معها من القبائل الأخرى فأكلوا المحلة وجهز القائد المخزني سعيد الكيلولي محلة أخرى تمكن بواسطتها من السيطرة على اشتوكة وهزمها”، وفق المتحدث ذاته.
كثيرة هي المواقع الأثرية باشتوكة، التي تشكل اليوم رصيدا من التراث الأثري والمعماري والتاريخي، غير أنه يعاني من مجموعة من المشاكل، تحول دون توظيفه في المجال التنموي، من أبرزها، حسب الطالب الباحث في سلك الدكتوراه، عيسى بودي، “انعدام أي تصنيف أو جرد للتراث المعماري للمنطقة، بما فيه من مواقع أثرية ومعالم وبنايات ذات قيمة تاريخية وفنية كبيرة؛ كما يعاني من غياب الدراسات المتعمقة والمتخصصة في التراث الحضاري والثقافي، وخصوصا منها التي يمكن أن تساعد على التحقيق في أصوله التاريخية والأسباب التي دعت إلى تشييدها، إضافة إلى الدور الذي قامت به هذه المعالم عبر تاريخ المنطقة والأحداث التي دارت فيها؛ زد على ذلك عدم ترتيب المباني التاريخية والأثرية والمنقولات والتحف، ما يجعلها عرضة للتصرف فيها، كونها لا تتمتع بالحماية القانونية، خاصة منها المخطوطات وبعض التحف القديمة التي يتم بيعها للأجانب، دون معرفة قيمتها وأهميتها التاريخية”.
وفي جانب آخر، فبالإضافة إلى قلة الإمكانيات المرصودة للجرد والصيانة والترميم، يتم “استعمال أدوات البناء الحديثة في عمليات ترميم وصيانة المآثر التاريخية والأثرية التي تقوم بها بعض المجالس المنتخبة دون القيام بالدراسات التقنية الأولية التي تسبق الترميم، ما يؤدي إلى تشويه المآثر التاريخية وتجريدها من القيمة التاريخية والفنية، إذ سرعان ما يتعرف الزائر على الأماكن التي تم ترميمها أو التي أُضيفت إلى المبنى؛ ناهيك عن تعرض المباني والمواقع الأثرية للعوامل الطبيعية (الأمطار، الرطوبة…) والبشرية التي تسرع وتيرة تدهورها واندثارها”، وفق الباحث ذاته.
مواقع وآثار معمارية تكتنز ذاكرة جماعية لمناطق سهل اشتوكة القروية، تحتاج اليوم إلى إعادة الاعتبار إليها، أولا بجردها من طرف متخصصين ومؤسسات الدولة المعنية، ثم بتشجيع ترميمها، وقبل ذلك تعبئة وتحسيس الساكنة بأهمية هذه الآثار والمآثر الثقافية، والتعريف بها؛ هذا إلى جانب استثمارها في الجانب التنموي، خاصة في المجال السياحة الثقافية.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك