فقه العيش عند شيوع البلوى بالفساد العام الحلقة الاولى

فقه العيش عند شيوع البلوى بالفساد العام الحلقة الاولى
مستجدات / الجمعة 01 نوفمبر 2024 12:29:03 / لا توجد تعليقات:

مغربنا 1 المغرب  من رعاية الشريعة للمصالح العامة؛ أنها فتحت باب الاجتهاد لأهله في أحكامها كلها دون استثناء؛ بما يوافق قصد الشارع ويحقق مصالح المكلفين عامة؛ بما في ذلك الاجتهاد مع نصوص الأحكام القطعية الثبوت والدلالة؛ ليس بما يثبت قطعيتها فحسب؛ بل وبما يجعلها قابلة للتنزيل العملي في واقع الحال كما ينبغي؛ وهو ما لا سبيل إليه إلا بالنظر في توفر أسبابها وشروطها وحضور مقتضياتها وانتفاء موانعها وعوارضها؛ إذ لا تنزيل لحكم شرعي بطريقة آلية وكيفما اتفق؛ بل لا بد من اكتمال أسبابه، وتوفر شروطه، وحضور مقتضاته، وانتفاء موانعه وعوارضه؛ حتى يطبق كما يجب بتمامه. أو يطبق منه ما يمكن؛ عند العجز الجزئي عن القيام به؛ عملا بقاعدة: " دين الله يسر " و قاعدة:" المشقة تجلب التيسير"؛ لقوله تعالى: ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ ( البقرة: 286 ). أو لا يطبق بالمرة عند العجز الكلي عن فعله؛ لأنه لا تكليف مع العجز الكلي عن التكليف؛ كما هو مقرر بالاتفاق. وعليه؛ يبقى الاجتهاد واردا في أي حكم شرعي كيفما كانت دلالته؛ ظنية أو قطعية؛ بحكم ما يقتضيه تحقيق المناط الخاص به في هذه النازلة أو تلك؛ بما يوافق قصد الشارع ويحقق مصالح العباد. ومن ثم؛ فإن النظر الفقهي المقاصدي يقتضي التفريق في تنزيل الشرائع بين أحكام الأصل وأحكام الاستثاء؛ وذلك باعتبار أن أحكام الأصل هي الأصل. فكلما كانت الأمة محكومة بشرع الله؛ في خاصة أفرادها وعامة مجتمعها ومؤسسات دولتها؛ فلا يسع جميع المكلفين فيها -حكاما ومحكومين- إلا العمل المتواصل بشرع الله، ولا عذر لهم في تعطيله لفائدة غيره من القوانين المناقضة له؛ ما دامت أسباب تنزيله قائمة، وشروطه متوفرة، وموانعه منعدمة، وعوارضه منتفية. وهذا بخلاف ما إذا انقلبت الأوضاع عن أحكام الأصل، وتنكرت الدولة لأحكام الشريعة، وأصبحت القوانين الوضعية هي السائدة بين الناس بقوة القانون؛كما هو واقع الحال اليوم. فحينئذ ما العمل ؟ وجوابا عليه أقول: إذا تغيرت أحوال الأمة والدولة من واقع الالتزام بأحكام الأصل إلى واقع التنكر لها والعمل بما يخالفها من القوانين الوضعية؛ فما على المكلفين -والحالة هذه- إلا الاجتهاد في العمل بما استطاعوا من أحكام الأصل؛ حتى إذا عجزوا عن الوفاء بها؛ جاز لهم الانتقال إلى العمل بأحكام الاستثناء؛ لضرورة العجز عن العيش بأحكام الأصل؛ عملا بما تقتضيه قواعد التيسير والرفق، ودفع المشاق ورفع الحرج، وإباحة المحضورات للضرورات الخاصة، والحاجات العامة. وللعلم؛ فإن هذا الانقلاب الذي طرأ على الأمة في دينها ودولتها بحيث لم يعد لأحكام الشريعة ومقاصدها وقيمها وجود عملي؛ هو ما جعل علماءنا يتحدثون عن " فقه الاضطرار " عند شغور الزمان عن حاكمية الشريعة، ودولة الأمة ومؤسسة الأئمة المجتهدين، مع عموم البلوى بالفساد العام؛ تحت عنوان:" فقه العيش عند عموم البلوى بالحرام."؛كما هو المستفاد من مقالات الجويني والغزالي وابن العربي والعز بن عبد السلام والشاطبي قديما، والقرضاوي والريسوني وغيرهما حديثا؛ وهو ما يقتضي تجديد النظر في هذا الفقه بشيء من التفصيل فيما يلي:
  • إن ما طرأ على الأمة من انقلاب على دينها ودولتها بحيث لم يعد لأحكام الشريعة ومقاصدها وقيمها وجود عملي؛ هو مما افترض وقوعه الإمام الجويني منذ القرن الخامس الهجري، وعبر عنه بشغور الزمان عن أحكام الشريعة، وانعدام الإمامة السياسية التي تتولى حراستها وسياسة الدنيا بها، وانقراض العلماء المجتهدين، فكتب كتابه: " غياث الأمم في التياث الظُّـلَم " لتشخيص ما ستؤول إليه أوضاع الأمة من تحولات جذرية لا مثيل لها في الفساد. وكيف السبيل إلى العيش والحالة هذه ؟
  • وتابعه تلميذه الإمام الغزالي مؤكدا عما ستصير إليه أحوال الأمة أيضا من تغيرات في الاتجاه المعاكس لأحكام الشريعة؛ فافترض ما يمكن أن تكون عليه من فساد عام أو أغلبي أو جزئي، وأجاب عنها بما يساعد عموم المكلفين على العيش بشكل طبيعي عند شغور الزمانعن حاكمية الشريعة، ودولة الأمة ومؤسسة الأئمة المجتهدين ؛ فيما اصطلح عليه بـ" فقه العيش عند عموم البلوى بالفساد العام."، وفيما يلي تقريب هذه الجملة.
إن " فقه العيش عند عموم البلوى بالفساد." من أهم وأدق أنواع الفقه، والخوض فيه ليس بالأمر الهين؛ وليس من السهل أن يقتحمه أيا كان ممن ليسوا أهلا له، وقد حاولت تجديد النظر فيه -جهد المقل- بما يقربه من الرأي العام؛ سواء على مستوى التأصيل النظري، أم على مستوى التطبيق العملي؛ المشفوع بما سنتناوله من النوازل الواقعية في مكانها بعد قليل. وعليه؛ إذا عمت البلوى بالحرام؛ فلا يباح إلا لمن اضطر إليه غير باغ ولا عاد، أو لمن كانوا في أمس الحاجة العامة إليه؛ بحيث لا يمكنهم التقلب في العيش بدونه. وحاصل القول في هذه النازلة لا يخرج عن قاعدة: " المصالح المشروعة لا ترفعها العوارض الخارجية." وهذه القاعدة الفريدة من أجل القواعد الجامعة التي تستدعي كلاما يكون فيه مد بعض نفس؛ فإنها من المواضع المُغْفَلَة التي قل من تكلم عليها، مع تأكدها في أصول الشريعة.[1] وكثرة الاحتياج إليها، وخاصة عند شغور الزمان عن الحكم بشرع الله، وانعدام الإمامة السياسية الشرعية، وانتشار البلوى بالفساد العام. وهي مما استأثر باهتمام أبي المعالي بشكل كبير؛ فنص على أن " فصلها لا يوازيه في أحكام المعاملات فصل، ولا يضاهيه في الشرف أصل، وقد حار في مضمونه عقول أرباب الألباب، ولم يحم على المدرك السديد فيه أحد الأصحاب."[2] ومجمل ما اهتدى إليه هذا الإمام في تفعيله لهذه القاعدة؛ أنه في حالة ما إذا تعطل العمل بشرع الله، وانعدمت الدولة الإسلامية الحامية له والحاكمة به، وفشا الفساد، وانتشر المنكر، وعم الحرام ؛ فلا سبيل إلى حمل الناس -والحالة هذه- على التخلي عن تحصيل مصالحم من المآكل والمشارب والملابس والمساكن وجميع المشاغل، وغيرها مما تتوقف عليه حياتهم، والاكتفاء من ذلك بما تدفع إليه الضرورة؛ بل لهم أن يأخذوا ما هم في أمس الحاجة إليه من الحاجيات؛ ولا يقتصروا على أخذ الضروريات فقط؛ وذلك لما يفضي إليه الاكتفاء بضروريات الحياة من انعكاسات سلبية على الجنس البشري؛ بحيث لو ترك الإنسان اكتساب حاجاته من التغذية والستر والمأوى والتداوي ووسائل النقل وتعاطي المباح من الرياضات المقوية للأجسام، واكتفى بضروري سد الرمق وستر العورة والعيش فيما تيسر من أكواخ وخيام؛ لأدى به ذلك إلى المشقة والحرج الذي يعود عليه بفساد البنـية وهزال الجسم، وضعف العمل، والانقطاع عن التصرف والتقلب في أمور العيش. وبتعبير إمام الحرمين:" فالقول المجمل في ذلك: إن الحرام إذا طبق الزمان وأهله، ولم يجدوا إلى طلب الحلال سبيلا؛ فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة، ولا يشترط الضرورة التي نرعها في حقوق آحاد الناس؛ بل الحاجة في الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر، فإن الواحد لو صابر ضرورته ولم يتعاط الميتة لهلك، ولو صابر الناس حاجاتهم وتعدوها إلى الضرورة لهلك الناس قاطبة، ففي تعدي الكافة الحاجة من خوف الهلاك ما في تعدي الضرورة في حق الآحاد. فافهموا ترشدوا؛ بل لو هلك واحد لم يؤد إلى خرم الأمور الكلية الدنيوية والدينية، ولو تصدى الناس للحاجة لهلكوا بالمسلك الذي ذكرناه من عند آخرهم ... وإذا تكرر الصبر على ذلك الحد من الجوع أورث ضعفا؛ فلا نكلف هذا الضرب من الامتناع. ويتحصل من مجموع ما نفيناه وأثبتناه أن الناس يأخذون ما لو تركوه لتضرروا في الحال أو في المآل، والضرار الذي ذكرناه في أدراج الكلام عنينا به ما يتوقع منه فساد البنية أو ضعف يصد عن التصرف والتقلب في أمور العيش. فإن قيل: هلا جعلتم المعتبر في الفصل ما ينتفع به المتناول. قلنا: هذا سؤال عم عن مسالك المراشد، فإنا قد أقمنا الحاجة العامة في حق الناس كافة مقام الضرورة في حق الواحد في استباحة ما هو محرم عند فرض الاختيار. فمن المحال أن يسوغ الازدياد من الحرام انتفاعا وترفها وتنعيما؛ فهذا منتهى البيان في هذا الشأن."[3] وعليه؛ فلا سبيل إلى المفاصلة التامة للمجتمع، والفرار منه الى الثلث الخالي من الدنيا؛ بل لا بد للناس من التعايش مع الواقع كما هو بما يضمن حاجاتهم اليومية، فضلا عن ضروريات حياتهم. متى عمت البلوى بالمخالفات الشرعية في المعاملات المالية؛ وكل ذلك لضرورة العجز عن العمل بأحكام الأصل، وعدم القدرة عن مجانبة تلك المخالفات بحال من الأحوال؛كما قال الإمام الشاطبي تحت قاعدة:" محال الاضطرار مغتفرة في الشرع ": " أعني أن إقامة الضرورة معتبرة، وما يطرأ عليه من عارضات المفاسد مغتفرة في جنب المصلحة المجتلبة، كما اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك في جنب الضرورة لإحياء النفس المضطرة، وكذلك النطق بكلمة الكفر أو الكذب حفظا للنفس أو المال حالة الإكراه، فما نحن فيه من ذلك النوع؛ فلا بد فيه من عدم اعتبار العارض للمصلحة الضرورية."[4] وهو ما يقطع بأن كل ما من شأنه أن يعطل مصالح الناس أو يلجأهم إلى ما لا يطاق من شظف العيش؛ فهو مضاد لمقاصد الشارع ومصالح الإنسان؛ كما هو مقرر في الكتاب، ومفصل في السنة، ومسلّم باتفاق العقلاء. ولذلك جاءت الشريعة بما لا ينحصر من قواعد التخفيف والتيسير ورفع الحرج والضيق والمشقة عن الحياة الإنسانـية، وكل ذلك حتى يحيى الناس في رغد من العيش ماديا ومعنويا.  

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك