مغربنا 1 المغرب
يحكي المخرج المغربي محمد اليونسي في هذا الحوار الذي خص به “مدار21” الجحيم الذي عاشه خلال تحضيره فيلم “الوشاح الأحمر” بالجزائر، والعراقيل التي وضعت في طريقه لتسليط الضوء على معاناة مغاربة طردوا من الجزائر بعد حرب الرمال وتصحيح حقائق تاريخية حرفتها الجارة الشرقية.
ما شعورك اليوم وأنت تعرض الفيلم بمدينة أزرو بعد مرور 7 سنوات على صدوره؟
وأنا أتلقى دعوة عرض فيلم “الوشاح الأحمر” بمدينة أزرو في إطار الاحتفالات بذكرى المسيرة الخضراء، التي تنظم من طرف المركز الثقافي لمدينة أزرو، ما يسعني إلا أن أشعر بالفرح والفخر.
أشعر بالفرح لأن فيلم “الوشاح الأحمر” ولو أنه قد مرت عليه سبع سنوات على أول عرض له، ما زال يلقى إقبالا على طلب عرضه. وأشعر بالفخر، لأنني كمخرج استطعت أن أغني الخزانة السينمائية بفيلم تاريخي يوثق مرحلة مهمة من تاريخ المغرب المعاصر، حيث أصبح وثيقة يحتفى بها مع كل ذكرى تحتفل بتاريخ المغرب، وأشعر بالفخر أيضا لأن هذا ما كنت أطمح إليه دائما في مسيرتي السينمائية؛ صنع أفلام لا تموت عند مولدها، بل تستمد قيمتها مع مرور الزمان.
هل سنشاهد الفيلم في مدن مغربية أخرى؟
متمنيات كل مخرج أن يعرض فيلمه في أكبر عدد ممكن من القاعات ليسمح بذلك بمشاهدته من طرف عموم المشاهدين، لكن للتذكير ففيلم “الوشاح الأحمر” زار أكثر من أربعة وعشرين بلدا في العالم، وزار عددا من القنصليات المغربية بالخارج، لجدية طرحه، وعمق تناوله لذكرى أليمة في نفوس المغاربة، وخصوصا الذين ما زالوا يكتوون بنار الطرد من الأراضي الجزائرية، وما زلت أتلقى دعوات عرضه مع كل مناسبة وطنية.
الفيلم يسلط الضوء على معاناة العديد من الأسر المغربية التي طردت من الجزائر بعد حرب الرمال، حدثنا أكثر عن تفاصيل هذا العمل؟
العمل كان آنذاك ثمرة لتتبع الصراع الذي كانت السلطات الجزائرية تحاول أن تفرضه على المغرب، وأتذكر قبل كتابة سيناريو الفيلم، كانت السلطات الجزائرية آنذاك تجند كل قواها المالية والدبلوماسية لتثير نقاش موضوع حقوق الإنسان بالصحراء المغربية، وذلك في كواليس الأمم المتحدة، مستغلة في ذلك طبعا لوبيات الدولار البترولي، للضغط على المغرب، وذلك بتزييف الحقائق بالصحراء المغربية، وفي الوقت نفسه كان الملك محمد السادس نصره الله قد بدأ في خطاباته يكشف عن سياسته المستقبلية، وذلك بالانتقال من سياسة المهادنة في مثل هذه المواضيع إلى سياسة الهجوم للدفاع عن الحقوق الوطنية، ومن هنا كانت بداية الفكرة الرئيسية لفيلم “الوشاح الأحمر”، التي كان مصدر إلهامها السيدة “يسرا طارق” الفنانة والإعلامية المغربية، التي اقترحتها علي لتناولها في فليم سينمائي.
ما هي رسالتك من خلال هذا الفيلم؟
عندما انطلقت رحلة كتابة فيلم “الوشاح الأحمر” كان الهدف الأسمى الرد على افتراءات السلطات الجزائرية في موضوع حقوق الإنسان بالصحراء المغربية، وذلك بتذكيرها بما فعلته في حق 450 ألف مواطن مغربي، حين طردتهم يوم عيد الأضحى من منازلهم، وجردتهم من أملاكهم وأموالهم، في ظروف أقرب إلى أسرى الحرب، حيث لم تراع في ذلك لا حقوق إنسان، ولا حقوق الدين، ولا حقوق صلة الدم، ولذلك كان لزاما كشف صورة النظام الجزائري للعالم وما مدى كذبه في التظاهر بالدفاع عن حقوق الإنسان. أما الأهداف المجاورة لهذا الهدف الأسمى، فكان توثيق مرحلة من التاريخ المشترك بين الشعبين الجزائري والمغربي، وتسليط الضوء على المشترك بين الشعبين ومدى ترابطهما من حيث التقاليد والثقافة والدين إلخ.
حدثنا أكثر عن ظروف تصويره في تلك الفترة، وهل واجهتك صعوبات في أثناء تحضيره؟
ظروف تصوير أي عمل تاريخي بالمغرب ما زالت تتعرض لمجموعة من الصعوبات الكبيرة، أولها الميزانية المخصصة لمثل هذه الأعمال التاريخية، والتي تكون أغلبها مثل ميزانية الأعمال الدرامية الأخرى، مما يجعل صانعيها يتجرعون كل ويلات الخيبات أثناء التصوير وبعده، مما يضطر أغلبهم للتنازل عن جودة الفيلم من أجل إتمام التصوير فقط، لذلك نجد جل الأفلام التاريخية لا ترقى إلى المستوى المطلوب.
لكن لفيلم “الوشاح الأحمر” خصوصية حتى في صعوبة إنجازه، إذ عندما هممت ببداية اختيار الممثلين، كانت فكرة إدماج بعض الممثلين الجزائريين المناضلين؛ الذين يؤمنون بلم شمل المغرب الكبير للمشاركة في هذه الملحمة للتعبير عن مساندتهم لهذا الطرح، فكرة تراودني من بداية الكتابة.
سافرت إلى الجزائر، واستقبلت بحفاوة بالعاصمة الجزائرية، وعندما نزلت بالفندق، كان جل المواطنين يرحبون بي كمغربي، ويفتخرون بما نتقاسم من تاريخ وصلة رحم. وجاء الغد حيث عمدت إلى ترتيب موعد لاختيار الممثلين، وكان حتى صاحب الفندق وموظفوه يساعدونني في ذلك، حيث قدموا لي قاعات الفندق للاشتغال بها، وحضر أغلب الممثلين الجزائريين المعروفين، بمن فيهم عيسى خالد، وحسن خشخاش وآخرون لم أعد أتذكر أسماءهم، وكان اختيار ثلاثة ممثلين منهم من ذكرت عيسى خالد وزوجته الممثلة، وكذلك الممثل حسن خشخاش، واتفقت معهم، لربح الوقت، أن أسلمهم السيناريو لنبدأ جلسات نقاش الشخصيات قبل عودتي للمغرب، لأن طائرة العودة إلى فرنسا حيث كنت سألتقي بمدير التصوير جون مارك دي سيلفا، كانت بعد أربعة أيام، من تاريخ اختيار الممثلين.
وكان أول لقاء بعد غد مع الممثل حسن خشخاش، حيث دعاني إلى مقهى صباحا بوسط مدينة الجزائر العاصمة، وبعد النقاش الخفيف حول السينما المغربية والجزائرية، دار بيننا نقاش حول فكرة فليم “الوشاح الأحمر”، على أن يكون بيننا لقاء ثان بعد أن سلمته نسخة من سيناريو فيلم “الوشاح الأحمر”، ويا ليتني ما سلمته السيناريو.
بعد افتراقنا، قضيت مجمل نهاري في زيارة مدينة الجزائر، أتفحص عمرانها، وكنت أبحث عن المتحف العسكري لاقتناء بعض الكتب للاستنباط منها للفيلم، فلم أوفق.
في اليوم نفسه، عدت إلى الفندق بعد يوم متعب، وكعادتي كنت أستقبل بحفاوة من موظف الاستقبال حتى غرفتي، لكن هذه المرة وجدت جحودا وتهجما لم أنتبه له، وولجت غرفتي ونمت حتى الغد، وعندما نزلت كعادتي لتناول إفطاري للاستعداد ليوم عمل جديد، حيث تنتظرني مجموعة لقاءات ومواعيد، صدمت بنوعية الإفطار الذي قدم لي، وعندما طلبت تغييره، لم يجبني النادل إلا بكلمة واحدة لا زالت ترن في أذني “إلى ما عجبكش الحال خرج فطر برا”، فقمت منزعجا وتوجهت نحو موظف الاستقبال، للاستفسار عن هذا التصرف، فما كان منه إلا ابتسامة خفيفة دون رد، ثم أدار ظهره وجلس، فبدأت الشكوك تتسلل لي، وحاولت إخفاء قلقي، فتوجهت نحو الصراف الذي بجانبه بالاستقبالات لتغيير عملة الأورو بالعملة الجزائرية، فكان رد الصراف أكثر قسوة من النادل.
أخفيت قلقي بابتسامة، وغادرت إلى الخارج، أحاول أن ألملم أفكاري في غربة لا أعرف منها غير الممثلين، فأخرجت هاتفي وحاولت الاتصال بهم، لكن دائما ما أجد الخط مشغولا، وبدأ الشك والقلق يزدادان مع مرور الوقت، لم أجد مع من أتحدث، وحاولت الاتصال بعائلتي بالمغرب، لكن الهاتف كان مشغولا أيضا، ثم حاولت الاتصال بمنتج الفيلم الأول السيد بوشعيب، فكان الرد ذاته؛ الهاتف خارج التغطية، ثم همت على وجهي بالمدينة العتيقة، وأنا أحس بأشخاص يلاحقونني، حاولت أن أتجاهل الأمر أولا، لكن مع نهاية اليوم، تيقنت أن في الأمر شيئا مريبا، وخصوصا عندما اتجهت إلى هاتف عمومي وطلبت كل الأرقام، التي قضيت النهار كله أحاول الاتصال بها، وجدتها أيضا خارج التغطية.
عندما عدت إلى الفندق، واستفسرت موظف الاستقبالات هل من أحد سأل عني، لم يجبني حينها بل استقبلني بابتسامة استهزاء، وهو يتفحصني بنظرات غريبة، حينها قررت الصعود إلى غرفتي وأنا في خوف وذعر كبيرين، ومكثت الليل على ذلك الحال، حتى الغد، ثم غادرت الفندق وتناولت إفطاري، وأعدت الكرة بالاتصال بالممثلين ثم بعائلتي ثم المنتج، فتأكد لي أمر إغلاق خط هاتفي، فازداد خوفي، ثم قررت اقتناء ما أحتاجه من مأكولات وشراب، واعتكفت بغرفتي لغاية موعد عودتي، خوفا من أي مفاجأة تذهب بي إلى مضايقة أو اعتقال.
بقيت في غرفتي لثلاثة أيام لا أخرج إلا للضرورة، طبعا مع محاولة الاتصال كل ساعة دون جدوى. كانت تجربة مريرة، عرفت من خلالها نعمة العيش ببلدي المغرب، ونعمة حرية التعبير التي نحضى بها بهذا الوطن العزيز.
وعندما حل يوم المغادرة، وكانت الساعة حوالي الثامنة صباحا، خرجت من غرفتي، وتوجهت إلى سيارات الأجرة الرابضة بباب الفندق، لكنهم رفضوا نقلي، ثم ابتعدت كثيرا وكل هواجسي وخوفي أن يفوتني موعد الطائرة، لأنني لن أستطيع المكوث بذلك البلد يوما آخر. ابتعدث عن الفندق، حتى صرت بالشارع الرئيسي، ووقفت ألتفت وأنا أطلب سيارات الأجرة، حتى حصلت على واحدة.. أشرت إليه للاتجاه للمطار بأسرع ما يمكن، وأخرجت النقود ودفعت له كل ما طلب بل وزدته بابتسامة أخفي من ورائها خوفي، “هاد الفلوس ما بقا عندي ما ندير بها. خودها”، ففرح السائق وأوصلني المطار في وقت وجيز.
استرجعت قليلا من أنفاسي، وأنا أدخل المطار، لكن عند وصولي إلى بوابة الشرطة، تعرضت لتفتيش مستفز لأكثر من ثلاث مرات وبمعاملات أستحيي ذكرها هنا.
كانوا ينتظرون مني الاعتراض أو أي تصرف يصدر عني، لكني كتمت غضبي وهواجسي، حتى صعدت الطائرة وأنا لا أصدق نفسي. كانت سويعات أطول من الثلاثة أيام التي قضيتها معتكفا في غرفتي بالفندق، وبمجرد ما انطلقت الطائرة، استرجعت قليلا من توازني، ونمت حتى مطار روما حيث كان علي تغيير الطائرة للاتجاه إلى باريس، وبمجرد ما نزلت من باب الطائرة، بدأت أسمع أصوات الرسائل الصوتية والمكتوبة تنهال على هاتفي كسيل من الفيضانات، حتى إن بعض المسافرين بدؤوا ينظرون إلي باستغراب.
عندما أخرجت هاتفي على إيقاع صوت سيول الرسائل فتحت هاتفي بارتباك غير مبال للمسافرين الذين يريدون تجاوزي وتجاوز حقيبتي التي تعيقهم. لقد كنت خارج الزمن، وأنا أتلقى آثار مكالمات عائلتي التي قلقت علي كثيرا والمنتج كذلك وبعض أصدقائي.
فعلا فرحت كثيرا وأنا أضحك لوحدي أمام استغراب بعض المسافرين، وأنا أقول لنفسي: فعلا نجوت يا اليونسي.
تعرضت للهجوم خلال صدور الفيلم من قبل الإعلام الجزائري، كيف واجهت ذلك؟
واجهت هجوم الصحافة الجزائرية بافتخار، لكني لم أفاجأ، لأني كما ذكرت سالفا تذوقت من سوء معاملتهم، وهم بالكاد قرأوا السيناريو، فكنت منتظرا أكثر من ذلك، لكن ما حز في قلبي بعض المنابر الصحفية المغربية، التي لم تواكب حدث صدور الفيلم كما يجب، كانت لا زالت تهتف بـ”خاوة خاوة”، بل منها من أعاب علي قسوتي في تقديم العسكر الجزائري بالفيلم، ومنهم أيضا أصدقاء ونقاد وبعض الممثلين “لا داعي لذكر أسمائهم”، أما الآن فقد تبين لهم خبث النظام الجزائري اتجاه المغرب، وبدأوا بالكاد يصدقون ما قدمته بفليم الوشاح الأحمر.
الفيلم حاول إظهار الحقائق التي حرفتها الجارة الشرقية، على ماذا اعتمدت من حيث المعطيات والوثائق في تحضير هذا الشريط؟
طبعا وقبل بداية كتابة أي سيناريو، وخصوصا التاريخي، فإني أعتمد على بحث معمق من خلال المراجع التاريخية التي تهم الموضوع، كما أستعين بأساتذة متخصصين في المجال الذي سأشتغل عليه، وهنا أذكر جيدا الأستاذ جمال الدين الدخيسي رحمة الله عليه، وما أفادني بخصوص موضوع فيلم “الوشاح الأحمر”، لأنه ينحذر من المنطقة الشرقية للمغرب، وكانت له دراية بلهجة المنطقة، كما عاش بعض الأحداث في الفترة ذاتها، والتي عملنا على إضافتها للفيلم.
بما أن الفيلم يعالج الأزمة بين البلدين في فترة تاريخية مهمة، ما رأيك في ما تتعرض له المملكة في الوقت الراهن من ممارسات تسيء للبلاد؟
هذا من ذاك. كما يقول المثل العربي، وكما قال الملك الحسن الثاني رحمه الله، “وحتى يعلم العالم بأي جار ابتلينا”. أنا لم أتفاجأ مما صار النظام العسكري الجزائري يظهره من عداء واضح للمملكة الشريفة المغربية، وإنما أستغرب من بعض المغاربة الذين ما زالوا يجدون أعذارا للسلطات الجزائرية، ويتبجحون بأفكار لا يفهمون معانيها، أو لا يرون مآلاتها.
لكن الحمد لله، لنا قيادة رشيدة تحت الرعاية السامية للملك محمد السادس، الذي أخذ المبادرة، وتصدى لمثل هذه التصرفات العدوانية بالمواجهة، وكما يقال، فأحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم، ولا عزاء للخونة، مهما اختبؤوا وراء الشعارات الزائفة.
هل تحضر لأعمال فنية جديدة؟
لا جديد تحت هاته الظروف التي نمر بها في المجال الثقافي والفني خصوصا. لقد فقد الميدان السينمائي بوصلته، وأصبحت الأعمال الجادة والهادفة لا تجد لها موطئا بين هذه التفاهة، التي أصبحت تعم الميدان السينمائي، تحت غطاء “السينما الواقعية”، وأنا لست ممن يتبعون التيارات الهوجاء.
فأنا أشتغل على مشروع سينمائي هادف، وقد أخذت على عاتقي أن أغني الخزانة السينمائية بأعمال تخدم القضية الوطنية، والإنسان المغربي الحر، لذلك فأنا ومنذ أربعة سنوات من المنتظرين، أكتب، وأترقب، لم يعد لدي خيار آخر.
بوستر فيلم “الوشاح الأحمر”
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك