الدكتور خالص جبلي:التاريخ كمصدر للمعرفة

الدكتور خالص جبلي:التاريخ كمصدر للمعرفة
حوار / الجمعة 01 نوفمبر 2024 12:29:03 / لا توجد تعليقات:

مغربنا 1 المغرب  في عام 1839 للميلاد توقف سائحان بريطانيان في (لموصل) شمالي العراق هما (أوستن هنري لايارد – AUSTIN HENRY) وصديقه (راسام – RASSAM) وكانا يزمعان متبعة رحلة مثيرة برية إلى سيلان (1) فقرر البقاء لعدة أيام رؤية بعض الآثار التاريخية خارج الموصل وهنا وقفا يتأملان أبنية أثرية بيضاء متحدية توحي لكل من يحدق فيها - حدث معي شخصياً قبل حوالي ثلاثين سنة بالفخامة – بالفخامة وقوة التحصينات ولم يخطر في بالهما قط أن سكان هذه المنطقة كانوا أفظع وأرعب ما أخرجت الأرض لسكان الشعوب المجاورة كما لم يخطر في بالهم أن اقامتهم ستمتد لسنوات طويلة في أطلال نينوى؟‍‍!!(2). جولة آشور المرعبة واكتشاف مكتبة آشور بانيبال؟!! كانت رؤية هذه الأبنية ذات جاذبية لا تقاوم لمعرفة سكانها الأصليين من هم؟ متى عاشوا ؟ ما هو الدور الذي لعبوه في التاريخ؟ ولم يستطع (لايارد) مقاومة فضوله فعمد إلى بعض التلال فبدأ بانكش فيها!! واشتد فضوله عندما اصطدم معوله ببعض اللوحات من الآجر وانعقد لسانه من الدهشة فقعد يحملق فيها فراعه نقوش غريبة وكأنها حفرت بالمسمار في هذه اللوحة الطينية قبل أن تجف تماماً وقبل طبخها الفني النهائي للمحافظة على النقوش فيها قال (لايارد) لنفسه كأنها كتابة (مسمارية) وكانت كذلك فأخذت أسمها منذ ذلك الاكتشاف!! وبالطبع فإن السومريين لم يسموا كتابتهم بذلك بل كانوا كل ظنهم أنها أجمل خط أنتجته يد الإنسان!!. حمل (لايارد) على عجل مكتشفاته إلى ما كانت تسمى في ذلك الوقت (المقيمة) البريطانية في بغداد المعادلة للسفارة اليوم حيث جمعته الظروف برجل بارع في تفسير الكتابة المسمارية هو (هنري رولنسون - HENRY RAWLINSON) فالمذكور قبل مجيئه إلى بغداد عمل لفترة طويلة في حل رموز هذه اللغة (الإسفينية) من النقش العظيم المعروف بسجل دارا المدون على حدر (بهستون) الذي عثر عليه قرب كرمان شاه في فارس (3). أوقف لايارد رحلته باتجاه سيلان وشده الفضول لمتابعة ما اكتشف فاستطاع خلال سنوات من العمل الشاق أن ينتشل من رحم الأرض قرابة خمسة وعشرين ألف لوح طيني ولم يدر في خلده يومها أنه قد وضع يده على المكتبة الممتازة التي أنشأها الملك الآشوري المرعب (آشور بني بعل) وفي عام 1853م أثار اكتشاف هذه الألواح ضجة كبرى في العالم حولها كونها أشارت إلى قصة الطوفان المعروفة في الكتب المقدسة وجاء ذكر الطوفان كسياق جانبي في الملحمة الرئيسية التي تضم اثني عشر لوحاً والمعروفة بـ (ملحمة جلجميش) (4). ملحمة جلجميش وقصة الطوفان أما الطوفان فجاء ذكره في اللوح الحادي عشر حيث طابقت ما جاء في العهد القديم بشكل ملفت للنظر وأما ملحمة جلجميش فإنها تروي أسطورة الملك (أوروك) (5) الذي مات صديقه (أينكيدو) إنسان الغابة فانطلق إلى البحث عن سر الموت والحياة فطفق يقول ويتساءل "فانتابني هلع الموت حتى همت بالبراري يثقل صدري خطب أخي فمالي من راحة ومالي من سكون صديقي الذي أحببت صار إلى تراب وأنا أفلا أرقد مثله ولا أفيق أبداً وأواه يا أوبتنابشتيم ماذا أفعل؟ أين أسير؟ لقد تسلل البلى إلى أطرافي وسكنت المنية حجرة نومي وحيثما قلبت وجهي أجد الموت وكانت الأجوبة تتردد عليه إلى أين تمضي يا جلجميش وأين تسعى بك قدماك الحياة التي تبحث عنها لن تجدها فالبشر أيامهم معدودة على هذه الأرض أو من (اوتنابشتيم) الذي وصل إليه بعد رحلة حافلة بالمخاطر: هل نشيد بيوتاً لا يدكها الفنا؟ وهل نعقد ميثاقاً لا يصيبه البلى؟ وهل يقتسم الأخوة ميراثهم ليبقى دهراً؟ وهل ينزرع الحقد في الأرض دواما؟ وهل يخرج اليعسوب من شرنقته ليدير وجهه للشمس طوالا؟ فمنذ الأزل لا تظهر الأمور ثباتاً في البدء اجتمع الأنوناكي الآلهة العظام وزعوا الحياة والموت ولم يكشفوا لحي عن يومه الموقوت أو في صورة العرض الذي تشرحه فتاة الحان (سيدوري): إلى أين تمضي يا جلجميش؟ الحياة التي بتحث عنها لن تجدي فاملأ بطنك افرح ليلك ونهارك اجعل من كل يوم عيداً ارقص لا هياً في الليل والنهار اخطر بثياب زاهية نظيفة اغسل رأسك وتحمم بالمياه دلل صغيرك الذي يمسك بيدك واسعد زوجك بين أحضانك هذا نصيب البشر في هذه الحياة" (6). ألواح جلجميش المكتوبة باللغة المسمارية والتي عثر عليها في مكتبة الدولة الآشورية التي قضت نحبها في القرن السابع قبل الميلاد تعود في الواقع إلى الدولة السومرية التي عمرت في الألف الثالثة قبل الميلاد وبذلك تكون قد سبقت أساطير (هوميروس) اليونانية في الإلياذة والأوديسة بألف وخمسمائة عام وإذا كانت هذه الكتابة قد بدئ باختراعها قبل خمسة آلاف سنة من التاريخ الحالي بحيث بدأنا(نقرأ) التاريخ فكم عمر الحضارة يا ترى؟ ومتى بدأت الكتابة؟ وكيف تسنى للإنسان اختراعها؟ وكيف تطورت؟ وما علاقة التاريخ بالكتابة عموماً؟ ثم ما هو دور الكتابة في الحياة البشرية؟ الكتابة هي الذاكرة الجديدة للإنسانية مرت اللغة في مرحلتين متميزتين استغرقت الأولى (التصويت والسماع) فترة طويلة قد تكون أخذت مئات الآلاف من السنوات في حين أن الثانية (الكتابة) بدأت منذ فترة حديثة نسبياً وهي خمسة آلاف سنة المرحلة الأولى بدورها تطلب إنجازها العبور من مرحلة بدائية إلى مرحلة أكثر تقدمية فالمرحلة البدائية اعتمدت الإشارات من حركة اليدين وهو الرأس وتعبيرات الوجه ووقفة الجسم وما شابه ذلك ومازالت بصمات هذه المرحلة تظللنا فنحن على العموم لا نستطيع أن نتكلم إلى من حولنا أو نخطب في جمع أو نتحدث في محاضرة بدون هذه الحركات بل تعتبر هذه علامات على دلالة الحيوية في المتكلم وفي النقلة اللاحقة بدأ الإنسان في التصويت بحيث ربط بين التصويت والفكرة تتأرجح المدارس الأنثروبولوجية عند هذه النقطة وكيف تشكلت خاصة وأن الطفل في السنة الأولى من العمر لا يستطيع التصويت حتى تنمو حنجرته فيتمكن من النطق بعدها. مخطط كرونولوجي والكتابة وإذا أردنا الآن وضع كرونولوجيا (وضع الأحداث بشكل متسلسل حسب التقويم الزمني) للكتابة فنقول: أن وبداية الإنسان بداية الكتابة خمسة آلاف سنة وبداية الحضارة ستة آلاف سنة وإذا أردنا تحويل بداية اختراع الكتابة بدورها إلى كتابة من خمسمائة صفحة فإن الكمبيوتر يبدأ في الصفحة الأخيرة منه. ولكن ما هي فلسفة (الكلمة)؟؟ تلك التي يشكل مجموع تراصها مقالتي التي بين يديك أيها القارئ الكريم إن (الكلمة المكتوبة) تطور حديث العهد فالإنسان احتاج طويلاً كي ينتقل من نظام التصويت وإشارات اليدين والرأس (7) إلى الكلمة المردة وعندما أراد الإنسان كتابة الكلمة بدأ بتصوير الشجرة والثور ولكن الإنسان أدرك منذ البداية استحالة التقدم بهذه الطريقة فعمد على اختراع الكتابة التي هي أسلوب في غاية الذكاء للتطور صحيح أننا مازلنا نعتمد على تعض الرسوم كما هو في رسم الطيارة للإشارة إلى المطار فشكل الطيارة أصبح عالمياً بدلالته إلى المطار كما أن رأس الطيارة جيد لتوجيه السير باتجاه المطار ولكن لا يمكن التقدم بالحياة بهذا الأسلوب البدائي حتى أن التلفزيون من هذا المنظور يجمع بني البدائية والتطور فاعتماد الصورة فقط هو نكسة للبدائية ف حين أن استخدام الكلمة قفزة نوعية للإنسان سواء المسموعة أو المكتوبة ومع وضع الفينيقيين للحروف الصماء الستة والعشرين وبإضافة اليونانيين الحروف المتحركة وبإضافة الأرقام أخيرة اكتملت اللغة. ما هو الشيء الخطير باختراع الكتابة؟ وما علاقة الكتابة بالتاريخ؟ إن القرآن الكريم أشار إلى القلم والسطر (ن. والقلم وما يسطرون) كما أشار إلى مرحلة (الكتاب) الكامل المتطور (والطور وكتاب مسطور في رق منشور) وأول الآيات التي أنزلت أشادت بالقلم الذي يطور العلم بالإضافة التراكمية للمعرفة كما ربطت القراءة والكرامة (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) فبقدر القراءة يصعد الإنسان ويرقى وفي التاريخ رأينا أن أكثر الأمم التي قرأت هي التي منحت الكرامة بفعل التراكم المعرفي عندها كما هو في اليابان اليوم حيث حققت أعلى نسبة من التعليم في العالم حتى قبل أمريكا أو اليونان قديماً أو العالم الإسلامي في العصر الوسيط وتحقيق التراكم المعرفي هو بواسطة القلم فالإنسان يضيف إلى علمه علماً جديداً من خلال ما كتب وبذلك أمكن اختزال الزمن وكسب تجارب الآخرين. لنقم بقلب المسألة بشكل آخر وذلك بفرض عدم اختراع الكتابة!! لأن هذا يحقق تصوراً أفضل للمشكلة كما أنه سينير الطريق أمام فهم الآيتين معاً (والقلم وما يسطرون) وعلاقة ذلك بحرف النون (ن) و(هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا) فالإنسان لم يذكر إلا من خلال تخليد ذكراه بالكتابة فالكتابة هي التي نقلته من عالم (الأنثروبولوجيا) التاريخ غير المكتوب إلى عالم التاريخ المكتوب لو حصل هذا أي عدم اختراع الكتابة لكان معناه وأد كل تجربة في أرضها بدون أي تراكم ولعاش الإنسان بدون تطور فالذي دفع عجلة التطور عند الإنسان هو التراكم المعفي من خلال حفظ التجارب من خلال الكتابة أي التاريخ المكتوب فالكتابة هي الذاكرة الجديدة التراكمية التي جعلت الإنسان إنساناً بحق من (الرق المنشور) إلى الكمبيوتر. لماذا لم يتطور الإنسان خلال فترة رهيبة غارقة في الزمن من تطوير نظام التصويت في حين قفز بشكل نوعي مع اختراع الكتابة؟ وهو بفضل هذا النظام يمشي بشكل تسارعي فهو في البداية اخترع الكتابة التي كانت تكتب في (الرق المنشور) ولكن قطعة الجلد التي حفظت الكتابة لم تكن عملية كثيراً فانتقل الإنسان إلى اختراع الورق ومع نظام الورق انتقل الإنسان إلى مرحلة (الكتاب المسطور) وهكذا نشأ نظام (نساخ الكتب) التي كانت في يوم من الأيام سوقاً وصناعة قائمة بذاتها وما بين ألواح (جلجميش) ومرحلة (الكتاب المسطور) سحب الزمن ثلاثة آلاف سنة ولكن هؤلاء (النساخ) المنهكون الذين كانت تتكسر ظهورهم وأصابعهم من العمل المتواصل لم تنقدح في ذهنهم فكرة في غاية البساطة من الأختام المستعملة في تذييل ومهر الرسائل وهي جعل وجه أو صفحة الخاتم أو الختم صفحة كبيرة بحجم ورقة من التي ينكبون على نسخها يومياً فإذا عملوا عدداً من هذه الأختام الكبيرة بقدر أوراق الكتاب كان معناه أن فكرة المطبعة قد ولدت ولكن هيهات هيهات لانبثاق الأفكار فضلاً عن التطبيق فهذه الفكرة البسيطة أخذت ألف وخمسمائة عام آخر ريثما ولدت في عالم التطبيق على يد (جوتنبرغ) الألماني فاختراع المطبعة دشن قبل خمسمائة عام فقط من تاريخنا الحالي ومع بروز عصر المطبعة بدأ الورق في تحرير عقل الإنسان(8) وبدأت (جدلية جديدة) في البروز من تحرر الفكر من الحدود ولقيود والمصادرة والخنق والكبت، فمع كل خطوة تحريرية يقرها العقل تولد معه آلة جديدة محررة للفكر، فهناك علاقة جدلية بين الفكر وآلته التي يركبها، فالهاتف أمكن مراقبته والفاكس أصبح أصعب ولكنه ليس في حيز المستحيل، والدش (الستلايت) الكبير يمكن كشفه ومنعه مثلاً ولكن ماذا تفعل مع دش من قطر سانتيمترات محدودة، أو مع نظام جديد لا حاجة به نهائياً إلى نظام دش خارجي، والكتاب (الخطر) المرغوب في العادة قد تستطيع مصادرته ولكن بواسطة ديسك بسيط يمكن نقل آلاف (البايتات) اليوم بما يمكن حمل نفوس أهل الكويت كلهم، فلم يعد بالإمكان الإمساك بالعلم اليوم، وهذا يعطينا إغراءً خاصاً أن من عنده فكر أفضل هو الذي سيخترق العالم. معنى لطيف في جدلية زواج الحروف وولادة معاني الكلمات كقانون عندما أشار القرآن في أكثر من مكان إلى الحرف، ذكره إما بشكل منفرد (ق) (ن) (ص) أو ملتحم بأكثر من حرف آخر ولعل أطولها كان (كهيعص) والحروف في الواقع هي الوحدات الأساسية المشكِلة للكلمات فالحرف اليتيم لا يدل على أي معنى والحرف الذي يودع حياة العذوبة ويتزوج هو الذي ينجب فيولد المعنى! فحرف واحد لا يمنح أي مدلول ولكن التصاق الحرفين في عملية تزاوج مع حرف آخر يشكل المعنى أو الحركة فقولد حروف الجر (مثل: من... عن ... قد) كما يولد الأسم (من مثل: فم...حب...رب) وهذه القاعدة تنطبق بشكل مثير على البيولوجيا والطبيعة انطباقها على اللغة، فعناصر الطبيعة لا توجد بشكل ذرات تائهة، والطبيعة تكره حياة العزوبة ولا تريد لأولادها حياة التشرد!! فلا يوجد عناصر مفردة هائمة على وجهها، بل توجد بشكل (جزيئات) أي تزاوج عنصري (بين العناصر) فلا يوجد هدروجين شارد أو صوديوم فلتان أو حديد منفرد!! بل لا بد من (إحصان) هؤلاء العذاب وتزويجهم كي يتوازن العنصر ويرشد ويعقل!!، وبذلك فعناصر الكون موجودة بشكل حياة زوجية، فـ (الملح) هو القران السعيد بين ذرتي الكلور والصوديوم، والماء هو الزواج الميمون بين شاردتي الهيدروجين والأكسيجين، ومن الغريب أن الملح الذي تحتاجه العضوية لو دخل بغير صورته الجديدة، أي لو دخل بصورة عناصره الأساسية لكان سماً قاتلاً، فالكلور هو من العناصر السمية الرهيبة في الملح، والذي استخدم في حرب الغازات السامة في الحرب العالمية الأولى، فالملح هو (الكلمة الجديدة) من تزاوج عنصري الكلور والصوديوم في لغة الطبيعة، والملح كلمة من قاموس الطبيعة ولغتها التي لا حدود لها، من الماء والزجاج والأمونيا وأملاح الذهب وأكسيد الحديد واليورانيوم والماس. كذلك الحال في البايولوجيا، فكل كائن هو حصيلة ارتصاف والتصاق حرفين بيولوجيين سابقيين، كما أن كل كائن جديد بالتصاقه مع سميه يشكل كلمة جديدة في الخلق الجديد، وحرف (النون) هو حرف من ستة حروف شكلت كلمة (يسطرون) ولكن حرف النون لوحده لم يعطى أي معنى، في حين أن اقترانه مع حروف أخرى قاد إلى انبثاق معنى جديد. والآن عندما استطاع الإنسان بالرمزية أن يتخلص من التصوير أمكن له ليس فقط ترميز الأشياء بل والأفعال وحروف الجر التي هي أصعبها ونحن لسنا أمام بحث في الألسنيات ولكن من أجل اكتشاف معنى التاريخ من خلال الكتابة فالكلمة إذا (حبست وقيدت) المعنى إذا صح التعبير فعندما نكتب شجرة باللغة العربية أو (TREE) باللغة الإنكليزية أو (BAUM) باللغة الألمانية أصبح كل الأفراد الذين تكلمون هذه اللغة المشتركة يتواصلون بالمعنى ونظرا لأن أصول اللغات ذات تركيب عقلي مشترك فيمكن بواسطة الترجمة تواصل الشعوب (ثقافيا) وكل هذا بواسطة الكلمة المكتوبة فالكلمة المكتوبة هيأت لبناء الذاكرة الجديدة فقط بل ذاكرة الآخرين بل وأبعد من ذلك وبغير حدود فبقدر القراءة والإطلاع يمكن شحن دماغه وهو جالس في مكانه وفي المستقبل ستولد إمكانية اتصال أي إنسان بأي إنسان في أي مكان فلكل إنسان سيصبح تلفون عالمي مستقل وكمبيوتر متصل بينابيع المعرفة الإنسانية ولن يحتاج الإنسان لجمع مكتبة عملاقة في منزله وفي بضع (ديسكات) سيحمل كل ذخائر الفكر البشري وكل ما كتب عبر العصور‍‍!! فالقرآن كان عميقاً حين أطلق عقولنا باتجاه (الجيولوجيا – علم طبقات الأرض) و(الجينالوجيا – علم أصول الأشياء) والتاريخ فعندما حثنا على تحري (كيف بدأ الخلق) (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) كان يريد منا أن نسير في الأرض لمعرفة بدئ كل ما عداه سبحانه وكل ما عداه فهو مخلوق (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) وكلمة خلق ذات طيف هائل فكل ما عدا الخالق جل وعلا يخضع لقاعدة تتبع مسارات البداءات الأولية فيه سواء في الكوسمولوجيا (الكون) أو البيولوجيا (علم الأحياء) أو السيكولوجيا (علم النفس) أو السسيولوجيا (علم الاجتماع) فهذه الكلمة تنطبق على: الذرة والمجرة على كيفية نشأة الحياة قيام الدول انبعاث الحضارات تشكل المجتمعات قيام الأحزاب انتشار الديانات ولادة الأفكار وبزوغ المؤسسات فهي كلمة ماسحة شاملة مثل الرادار الكوني لكل الحركات في الفضاء الوجودي. أهمية التاريخ من هذا المنظور إذن أننا كبشر لا يمكن أن نتشكل كبشر بدون مجتمع أولا وبدون تاريخ ثانياً فالمجتمع هو الذي ينقلنا من معادلة اليولوجيا إلى المعادلة الاجتماعية التي تصوغنا كبشر نتكلم ونتصرف وننمو عقلياً ونتمتع بالحضارة كما أن التاريخ هو الذي يعطينا التراكم المعرفي فيختزل لنا تجارب ملايين السنين ليضغطها في سنواتقليلة فالإنسان بدون تاريخ كالفرد بدون ذاكرة ولنتصور أنفسنا لحظة واحدة بدون ذاكرة سواء فقدان الذاكرة القريبة أو البعيدة كما في مرضى (الزهايمر) فننسى أين وضعنا مفتاح السيارة ولا نستطيع العودة إلى بيوتنا لأننا لا نعرف مكانها وننسى السباحة فنغرق وننسى قيادة السيارة فتحل بنا الكوارث إن فقدان حس التاريخ بكلمة ثانية هو بمثابة مرض الزهايمر اجتماعي. مراجع وهوامش: (1) تراجع القصة بالتفصيل في كتاب ملحمة جلجميش – ن.ك.ساندرز – ترجمة محمد نبيل نوفل – دار المعارف بمصر ص/10. (2) يراجع في هذا كتاب دراسة التاريخ لجون أرنولد توينبي الجزء الأول بحث انتحارية النزعة الحربية وكيف أن دولة آشور مسحت معظم مدن منطقة الشرق الأوسط وسوتها بالأرض وحملت شعوبا بأكملها إلى معسكرات الاعتقال الجماعية منها الشعب اليهودي الذي مازال يحملها في الذاكرة الجماعية. (3) نفس المصدر السابق ملحمة جلجميش ص/11. (4) تراجع الترجمة الكاملة للملحمة في كتاب (قراءة في ملحمة جلجميش). (5) تعتبر هذه المدينة وأخريات مثل بابل ونيبور و أور وأكاد من المدن العامرة التي شكلت يوما ما حضارة ما بين النهرين. (6) فراس سواح – جلجميش ص/275 . (7) الانثروبولجيا علم الإنسان – عبد المجيد عبد الرحيم – مكتبة غريب ص/38 "وقد ظهرت اللغة في الجماعات البدائية الأولى في صورة إشارات وهزات بالرأس واليدين وقسمات الوجه حتى أن إحدى القبائل البدائية في أفريقيا لا يستطيع أفرادها التفاهم في الليل إلا إذا جلسوا حول النار". (8) يراجع في هذا الكتاب هـ ج ويلز – معالم تاريخ الإنسانية – الجزء الثالث ص987 فصل كيف حرر الورق عقل الإنسان "ودخلت الحياة الفكرية للعالم في دور جديد وكفت عن أن تكون رشحاً طفيفاً تنتقل قطراته من عقل إلى عقل وأصبحت فيضانا عميماً تساهم فيه آلاف من العقول ما لبثت أن صارت على الفور عشرات آلاف ثم مئات آلاف".    

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك